مقدمة عن مصر الاسلامية
___________


فى عام (628 م) و الموافق العام السابع عشر من الهجرة بعث محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم رسالة الى المقوقس عظيم القبط فى مصر يدعوه فيها الى الاسلام وقد أحسن المقوقس استقبال سفراء النبي صلي الله عليه وعلى الرغم من أن المقوقس تردد فى قبول الدعوة الإسلامية إلا أنه بعث بهدية إلى الرسول الكريم كان على رأسها احدى بنات مصر وهى السيدة " مارية " وبعض من منتجات مصر وقد خلفت هذه الهدية روابط قوية بين مصر وبلاد العرب .

فى عهد الرسول الكريم وبخاصة بعد إنجابه من السيدة مارية ولده إبراهيم وهو الأمر الذى دعم صلة النسب مع المصريين ومهدت للفتح الإسلامي لمصر وقد جاءت رسالة الرسول فى الوقت الذى كانت تعانى مصر فيه من الاضطراب خاصة فى الاختلافات الدينية التى كانت بين المصريين والبيزنطيين و قد تم فتح مصر فى عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه على يد عمرو بن العاص و ذلك عام 20 هـ / 641 م .

بدأت منذ ذلك التاريخ مرحلة هامة من مراحل التاريخ السياسى لمصر الإسلامية اضطلعت خلالها مصر بدور مهم عبر مراحل التاريخ الاسلامى التى امتدت عبر عدة دول وامبراطوريات إسلامية تشمل بدءاً بالدولة الأموية , ثم الدولة العباسية فالاخشيدية فالدولة الفاطمية ثم الدولية الأيوبية , ثم عصر المماليك وأخيراً الإمبراطورية العثمانية التى كانت مصر إحدى ولاياتها لنحو ثلاثمائة عام و قد شهدت مصر خلال الحكم الإسلامي نهضة شاملة فى العمران والفنون و الادآب و كافة مجالات الحياة الاخرىو تنقسم عصور مصر الاسلامية الى :
1 -
عصر الولاة : 640 – 868 م .
من حكامها : عمرو بن العاص .
2 -
الدولة الطولونية : 868-905م .
و من حكامها : أحمد بن طولون – خماروية بن أحمد بن طولون .
3 -
الدولة الاخشيدية : 935-969م.
و من حكامها : محمد بن طغج الاخشيد – كافور.
4 -
الدولة الفاطمية : 969 -1171م.
و من حكامها : المعز لدين الله – العزيز بن المعز – الحاكم بأمر الله – الظاهر بن الحاكم – المستعلى - العاضد.
5 -
الدولة الأيوبية : 1171-1250م.
و من حكامها : صلاح الدين الأيوبي – العادل أخو صلاح الدين – الكامل – العادل الثانى – الصالح أيوب .
6 -
دولة المماليك البحرية : 1250 -1382م.
و من حكامها : شجر الدر – عز الدين إيبك – الظاهر بيبرس – المنصور قلاوون – الأشرف خليلالناصر محمد بن قلاوون – السلطان حسن .
7 -
دولة المماليك الجراكسه : 1382-1517م.
و من حكامها : السلطان برقوق – السلطان فرجالسلطان المؤيد شيخ – الاشراف برسباى – قايتباى – قنصوره الغورى

 

مصر قبل الفتح الإسلامي
_____________

أتاح صلح الحديبية الذى عقده محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم فى السنة السادسة للهجرة ( 628 م ) مع قريش فى مكة المكرمة أن يبعث بسفاراته إلى رؤساء وملوك العالم المعاصر له يدعوهم إلى دين الله الجديد وهو الإسلام فاتجهت سفارتان منها إلى هرقل إمبراطور الروم وإلى نائبه على مصر قيرس المشهور فى المصادر التاريخية باسم المقوقس وكان على رأس هذه السفارة " حاطب ابن أبي بلتعة " وقد غادرت السفارة المدينة المنورة فى شهر ذى الحجة من سنة 6 هـ أبريل سنة 628م ووصلت مصر سنة 7 هـ 628م وكانت تحمل الكتاب التالى :


"
من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدي ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم القبط يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا فشهدوا بأنا مسلمون " .

فلقد جاءت سفارة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس دليلا على تقدير الرسول الكريم لمكانة مصر العالية وسط أقرانها من الدول التى دخلها الإسلام وعاصمتها المدينة المنورة وإنقاذا لمصر من المتاعب الاقتصادية التى كانت تمر بها ومن الاضطراب الذى كان يسود مصر فى ذلك الوقت وبخاصة فى الاختلافات الدينية التى كانت بين المصريين والبيزنطيين والتى كان من أهمها رفض المصريين تدخل الأباطرة البيزنطين فى الجدل الديني الذى دار منذ القرن الرابع الميلادى حول طبيعة السيد المسيح ، فلقد وجد المصريون فى هذا الخلاف الديني سبيلا للخروج على بيزنطة والقيام بحركات ضد مساوئ الإدارة البيزنطية فى البلاد والتى كان من أهمها حركات الاضطهاد الديني ضد من يخالف بيزنطة فى العقيدة الدينية مع ما أنزلته من تعسف وظلم بالمصريين ولا سيما فى جباية الضرائب فاتخذت المقاومة المصرية حركة هجرة من الريف إلى المعابد والأديرة بالصحراء الأمر الذى أدي معه إلى انتشار الفوضى بالبلاد واختلطت هذه الفوضى بهجوم الفرس الساسانيين أعداء بيزنطة على مصر والشام وعلى الرغم من أن هرقل استطاع استرداد مصر والشام من الفرس ودخول بلاد فارس نفسها سنة 628م إلا أنه عجز عن تحقيق الاستقرار فى مصر بسبب استمرا المشكلة الدينية ومتاعبها .

وهكذا عندما وصلت سفارة النبي صلي الله عليه وسلم إلى مصر سنة 7 هـ / 628م أي بعد جلاء الفرس عن البلاد وانتصار هرقل على الفرس أحسن المقوقس استقبالها سفراء النبي صلي الله عليه وسلم الأمر الذى يدل على أن دعوة الإسلام غدت فى ذلك الوقت تلقى أذانا صاغية باعتبارها السبيل الأمثل للنجاة من المشاكل الدينية وعلى الرغم من أن المقوقس تردد فى قبول الدعوة الإسلامية إلا أنه بعث بهدية إلى الرسول الكريم ومعه هذا الرد :

"
بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك ، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا بقي وكنت أظن أنه يخرج من الشام وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم أهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك " .

 

ولقد كانت هدية المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم من أشهر منتجات مصر ومنها عسل من إنتاج مدينة بنها وثياب مما اشتهرت بها مصر والتى عرفت باسم " القباطي " كما كان على رأس هدية المقوقس إحدى بنات مصر وهى السيدة " مارية " من قرية حفن التابعة لمقاطعة أنصنا وموقعها الآن مدينة النصلة بمركز ملوي بمحافظة المنيا ، وقد خلفت هدية المقوقس إلى النبي صلى الله عليه وسلم روابط قوية بين مصر وبلاد العرب على عهد الرسول الكريم وبخاصة بعد إنجابه من السيدة مارية ولده إبراهيم وهو الأمر الذى دعم صلة النسب مع المصريين ومهدت للفتح الإسلامي لمصروعندما تولي عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الخلافة وقدم الجابية - مرتفعات الجولان حاليا - بعد الانتصار على حملة الروم ببلاد الشام قام إليه عمرو بن العاص وقال له : " يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أسير إلى مصر وحرضه عليها وقال : إنك إن فتحتها عنوة كانت قوة للمسلمين وعونا لهم وهى أكثر الأرض أموالا وأعجزها من القتال والحرب " ، فتخوف عمر بن الخطاب على المسلمين فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند عمر حتي أذن له عمر بن الخطاب بالمسير إليها وقال له : " سر وأنا مستخير الله فى سيرك وسيأتيك كتابي سريعا إن شاء الله فإن أدركك كتابي آمرك فيه بالانصراف عن مصر قبل أن تدخلها أو شيئا من أرضها فانصرف وإن أنت دخلتها قبل أن يأتيك كتابي فامض لوجهك واستعن بالله واستنصره " ، فسار عمرو بن العاص إلى مصر على جيش قوامه أربعة آلاف مقاتل ودخل رفح بالعريش فى أوائل سنة 19 هـ / 640م قبل أن يصله خطاب عمر بن الخطاب حيث استولي عليها بسهولة بسبب خلوها من قوات الروم ثم تابع عمرو بن العاص زحفه من العريش إلى بلوز التى سماها العرب الفرما وهى مدينة تقع شرقي بورسعيد حاليا وسلك فى هذا الزحف الطريق الرملي البعيد عن الشاطئ وهو الطريق الذى سلكه منذ أقدم العصور كل وافد علي مصر أو جيش محارب لها إذ عبر من هذا الطريق نبي الله الخليل إبراهيم حين قصد مصر كما اجتازته جيوش الإسكندر كما سارت عليه العائلة المقدسة عند مجيئها إلى مصر .

وقد اتسمت حركات عمرو بن العاص بالسرعة فى التنقل والابتعاد عن الأماكن المراد ضربها حتي وصل إلى حصن بابليون معقل الروم الرئيسي بمصر الذى انتصر عليهم فى موقعة هليوبوليس أو عين شمس وعقد صلح بابليون ثم قدر الله بعد ذلك استكمال فتح مصر بدخوله إلى مدينة الإسكندرية بعد وفاة الإمبراطور هرقل سنة 20 هـ / 641م وعقد صلح عرف باسم صلح الإسكندرية ، ثم دخولها مرة أخرى والاستيلاء عليها سنة 646م وإنزاله بحامية الروم بها هزيمة فادحة ، وبذلك أصبحت مصر منذ ذلك الوقت دولة إسلامية ، وخاصة بعد أن أسس عمرو بن العاص أول مدينة عربية أو إسلامية بها هى مدينة الفسطاط وكانت تقع شمال حصن بابليون ثم أسس أول جامع بها عرف باسم جامع عمرو بن العاص وذلك سنة 21 هـ / 641م .

ولقد كان أول تقرير بعث به عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصف فيه مصر وأهلها يحمل بين طياته حقيقة هامة وهى أن الفتح إسلامي لمصر وضع حدا للسيادة الرومانية ثم البيزنطية على مصر والتى اتسمت بالتشريعات المجحفة للمصريين وحرمانهم من ممارسة الاشتراك فى إدارة شئون بلادهم فضلا عن حركات الاضطهاد الديني الذى تميزت به هذه الفترة .

مصر في عصر الامارة الاسلامية
_________

كان أول من تولي إمارة مصر بعد الفتح العربي لها هو عمرو بن العاص الذى وصف البناء السياسي لمصر قائلا : " ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة " وهو قول يعنى أن ولاية مصر تملك من المقومات ما يجعل أمير البلاد وهو لقب والى مصر من قبل الخلفاء يقف على نفس قدر الخليفة نفسه وهو ما ظهر منذ خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه حيث جاء ارتباط مصر منذ ذلك التاريخ بأحداث الدولة الإسلامية ، والتى ظهرت عندما شاركت مصر فى النشاط السياسي للبيت الأموي وصراعه للوصول إلى الخلافة الإسلامية .
ثم شاركت مصر بعد ذلك فى الخلاف الذى دب بين المسلمين بعد وفاة عثمان بن عفان رضى الله عنه وخاصة بين على بن أبي طالب رضى الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان الذى استطاع بدهائه أن يتمكن من الاستيلاء على مصر بقيادة عمرو بن العاص سنة 38 هـ ، حيث بدأت منذ ذلك التاريخ مرحلة هامة من مراحل التاريخ السياسي لمصر الإسلامية كانت فيه موضعا لأنظار القوي السياسيةجامع عمرو بن العاص

 

 

الامويين

انتقال الخلافة إلى الأمويين

لما طمع بنو أمية في الخلافة كانت قد أفضت إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) صهر النبي (صلّى الله عليه وآله) وابن عمه والمسلمون يعتقدون أنه أحق الناس بها لقرابته من النبي (صلّى الله عليه وآله) وتقواه وشجاعته وعلمه وسابقته في الإسلام وفضله في تأييده، فتصدّى له معاوية بن أبي سفيان وكان أبوه وأخوته من أشد الناس مقاومة للإسلام عند ظهوره ولم يسلموا إلا بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وإنما أقدموا على ذلك مضطرين لما رأوا الإسلام قد تأيد في جزيرة العرب ولم يبق سبيل إلى مقاومته.

وكان أبو سفيان والد معاوية زعيم أهل مكة وقد حارب النبي (صلّى الله عليه وآله) في عدة أماكن وجاهر بعدوانه وطعن فيه فلما ظفر المسلمون في غزواتهم واشتد أزرهم وهموا بفتح مكة ومشوا حتى أقبلوا عليها كان أبو سفيان وبعض كبراء قريش قد خرجوا منها يتجسسون، فلقيهم العباس عم النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال له أبو سفيان وقد أسقط بيده: (لقد أصبح أمر ابن أخيك عظيماً) فأشار عليه العباس أن يستأمن فلم ير له حيلة في غير ذلك فاستأمن ثم فتحت مكة ولم يكن له بد من الإسلام فأسلم هو وأولاده وفيهم معاوية وقد تألفهم النبي (صلّى الله عليه وآله) بالعطاء ليثبتوا في إسلامهم.

معاوية وعلي (عليه السلام)

وكان بنو أمية ينظرون إلى ما ناله بنو هاشم بالنبوة من السلطان والجاه ويتوقعون فرصة للقبض على أزمة الملك، فلما قتل عمر بن الخطاب وأمر بالشورى اختار الصحابة عثمان بن عفان وهو من بني أمية ولا يخلو فوزهم بهذا الانتخاب من دسيسة أموية. وكان عثمان ضعيفاً يؤثر ذوي قرابته في مصالح الدولة فاغتنم الأمويون ضعفه وتولوا الأعمال واستأثروا بالأموال فشق ذلك على سائر الصحابة فنقموا عليه وقتلوه.

فاتخذ الأمويون قتله ذريعة للقبض على الخلافة ورئيسهم معاوية بن أبي سفيان عامل عثمان على الشام ومعه رجال قريش، وكان أدهى أهل زمانه بلا منازع فنظر في الأمر نظر رجل يطلب الملك كما يطلبه أهل المطامع وطلاب السيادة في كل عصر بلا علاقة بالدين وقد ساعده على ذلك أن خصمه علياً (عليه السلام) كان يعتبر الخلافة منصباً دينياً وهو زاهد في الدنيا لا مطمع له في غير الثواب والحسنى. وإن رجال معاوية قد ذهبت منهم حرمة الدين ونسوا أبهة النبوة وذاقوا لذة الثروة وتعودوا السيادة فاتسعت مطامعهم، فأثمرت مساعي معاوية في اصطناع الأحزاب بقاعدة ذكرها في حديث دار بينه وبين عمرو بن العاص فقال معاوية: (لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت) فقال عمرو: (وكيف ذلك؟) قال: (إن هم شدوا أرخيت وإذا أرخوا شددت).

فأول شيء فعله معاوية أنه استعان بثلاثة من كبار الصحابة يعدّهم المؤرخون أدهى رجال العرب ومعاوية أدهاهم جميعاً وهم عمرو بن العاص وزياد بن أبيه والمغيرة بن شعبة ولولاهم لم يستتب له الأمر لأن ابن العاص احتال في نجاته من واقعة صفين بعد أن كادت الدائرة تدور عليه إذ ظهرت جيوش علي (عليه السلام) على جيوشه فأشار عليه عمرو بن العاص أن يرفع المصاحف لإيقاف الحرب ثم أشار بالتحكيم وخدع أبا موسى الأشعري نائب علي (عليه السلام) في ذلك التحكيم فخلع عليّاً وبايع معاوية. ونال عمرو في مقابل ذلك ولاية مصر طعمة له طول العمر، وزياد بن أبيه رجل لا يُعرف له أب فلما رأى معاوية دهاءه قرّبه منه وادعى أنه أخوه واستلحقه بنسبه وسماه زياد بن أبي سفيان في حديث طويل واستلحاق زياد أول عمل ردّت به أعلام الشريعة الإسلامية علانية وكان زياد عوناً كبيراً لمعاوية في حفظ العراق وفارس. أما المغيرة بن شعبة فهو أول من ضرب النقود المزيفة في الإسلام وأول من أرشى وهو الذي حرّض معاوية على مبايعة ابنه يزيد وجعل الخلافة وراثية في نسله وساعده على ذلك فهؤلاء وغيرهم من كبار القواد اكتسب معاوية مساعدتهم بالدهاء والأطماع فأطعم ابن العاص مصر وأطعم المغيرة فارس وجعل زياداً أخاه وكان يتساهل في محاسبة عماله ويغضي عن سيئاتهم ويبالغ في إكرامهم. ولو رأوا من علي بعض ذلك لكانوا معه ولكن علياً كان دقيقاً في محاسبتهم متصلباً برأيه لا يحيد عما يقتضيه ضميره.

رغبة بني أمية في السيادة

إن المحور الذي كانت تدور عليه سياسة بني أمية والغرض الذي كانوا يرمون إليه إنما هو إحراز الخلافة والرجوع إلى السيادة التي كانت لهم في الجاهلية بقطع النظر عن وعورة المسالك المؤدية إلى ذلك أو وخامة الأسباب التي تمسّكوا بها. وقد فازوا بغايتهم فاتسعت المملكة الإسلامية في أيامهم واشتدت شوكتها مما لم تبلغ إليه دولة العباسيين بعدها وكانوا يطلبون السلطة على أن لا يشاركهم فيها أحد، وكان أشدهم فتكاً عبد الملك بن مروان يقول (لا يجتمع فحلان في أجمة) فرغبة بني أمية في السلطة على هذه الصورة مع وجود من هو أحق منهم بها جرّهم إلى ارتكاب أمور آلت إلى توجيه المطاعن عليهم، وقد ظهرت هذه الدولة وتغلبت على سائر طلاب الخلافة في أيامهم بشيئين: العصبية القرشية واصطناع العصبيات أو الأحزاب الأخرى وهما أساس كل ما ظهر من سياسة بني أمية كما سترى.

العصبية العربية في عصر الأمويين

العرب وقريش

كانت العصبية العربية في الجاهلية بين القبائل بحسب الأنساب فلما جاء الإسلام تناسوا تلك العصبية واجتمع العرب كافة باسم الإسلام أو الرابطة الإسلامية، ومازالت الرابطة الإسلامية تشمل العرب على اختلاف قبائلهم وبطونهم حتى إذا طمع بنو أمية بالملك وقبضوا على أزمة الخلافة استبدوا وتعصبوا للعرب وحافظوا على مقتضيات البداوة وتمسكوا بعاداتها فظلت خشونة البادية غالبة على حكومتهم وظاهرة في سياستهم مع ذهاب مناقب البدو التي ذكرناها. وإنما حفظوا من أحوال جاهليتهم تعصبهم لقبيلتهم (قريش) وإيثار أهلهم على سواهم، فجاشت عوامل الحسد في نفوس القبائل التي كان لها شأن في الجاهلية وضاع فضلها في الإسلام وخصوصاً أهل البصرة والكوفة والشام لأن أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي (صلّى الله عليه وآله) ولا هذّبتهم سيرته ولا رُوّضوا بخلقه مع ما كان فيهم من جفاء الجاهلية وعصبيتها، فلما استفحلت الدولة إذا هم في قبضة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب فاستنكفوا من ذلك وغصوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والروم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وكندة والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر فصاروا إلى الغضب من قريش والأنفة عليهم فعادت العصبية إلى نحو ما كانت عليه في الجاهلية، فوقعت الوحشة بين قريش وسائر القبائل من ذلك الحين وخصوصاً بينهم وبين اليمنية ومنهم الأنصار. وثبت الأنصار في نصرة أهل البيت ضد أهلهم من قريش مثلما فعلوا في أول الإسلام إذ جاءهم النبي (صلّى الله عليه وآله) مهاجراً فراراً من أهله. وانقسم العرب في سائر أنحاء المملكة الإسلامية بين هذين الحزبين قيسية وكلبية أو مضرية ويمنية أو نزارية وقحطانية وقامت المنازعات بينهما في الشام والعراق ومصر وفارس وخراسان وأفريقيا والأندلس، وفي كل بلد من هذه البلاد وغيرها حزبان مضري ويمني تختلف قوة أحدهما أو الآخر باختلاف الخلفاء أو الأمراء أو العمال، فالعامل المصري يقدّم المضرية والعامل اليمني يقدّم اليمنية ويختلف ذلك باختلاف الأموال وله تأثير في كل شيء من تصاريف أحوالهم حتى في تولية الخلفاء والأمراء وعزلهم وكثيراً ما كانت الولاية والعزل موقوفين على انحياز أحد هذين الحزبين. على أن قريشاً كانوا منقسمين فيما بينهم وأهم انقساماتهم بين أمية وهاشم فكان الناس يتعصبون لأحدهما على الآخر تبعاً لغرضه أو وطنه وكثيراً ما كانوا يتشاجرون في هذا السبيل فيشغلون أوقاتهم بالمناظرة والمفاخرة حتى تحتدم نار الخصام وتتحوّل إلى حرب يطير شرارها وتُسفك فيها الدماء، وكانت قوة بني هاشم في الحجاز والعراق وقوة بني أمية في الشام ويختلف هذا التحديد باختلاف العصور.

عصبية العرب على العجم

وكما كان القرشيون في أيام بني أمية مقدمين على سائر قبائل العرب فإن العرب على الإجمال كانوا مقدمين على سائر الأمم الذين دانوا للمسلمين، فكان العربي يعد نفسه سيداً على غير العربي ويرى أنه خُلق للسيادة وذاك للخدمة ولذلك لم يكن العرب يشتغلون في صدر الإسلام إلا بالسياسة والحكومة وتركوا سائر الأعمال لسواهم وخصوصاً المهن والصناعات. ولم يكن العرب يعتنون بشيء من العلم غير الشعر والتاريخ لأنه لازم للسيادة والفتح وأما الحساب والكتابة فقد كانت من صنائع الموالي وأهل الذمة ولذلك كان العمال في أيام بني أمية مع تعصبهم للعرب قلما يولونهم الدواوين لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يحسبون.

وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعاً وأرقاء وتكاثروا فأدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمّ أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم، وقبل مباشرة ذلك استشار بعض كبار الأمراء من رجال بطانته وفيهم الأحنف بن قيس وسمرة بن جندب فقال لهما: (إني رأيت هذه الحمراء ـ يعني الموالي ـ وأراها قد قطعت على السلف وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان فرأيت أن أقتل شطراً وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق فما ترون؟) فقال الأحنف: (أرى أن نفسي لا تطيب.. أخي لأمي وخالي ومولاي وقد شاركناهم وشاركونا في النسب) وأما سمرة فأشار بقتلهم وطلب أن يتولى ذلك هو بنفسه فرأى معاوية أن الحزم في رأي الأحنف فكفّ عنهم، فاعتبِر مقدار استخفاف العرب بسواهم وكيف يخطر للخليفة أن يقتل شطراً منهم بغير ذنب اقترفوه كأنهم من الأغنام. وكانوا يسمون العربي من أم أعجمية (الهجين) ولا يزوّجون الأعجمي عربية ولو كان أميراً وكانت هي من أحقر القبائل، فلما بالغ بنو أمية في الاستخفاف بغير العرب وقد ذهبت أبهة النبوة أخذ هؤلاء في التذمر ونصروا آل علي (عليه السلام) والخوارج وغيرهم من أعداء الأمويين وهان عليهم الرد على العرب في مفاخراتهم فنشأ من ذلك طائفة يُعرَفون بالشعوبية لا يعترفون بفضل العرب على سواهم وتصدوا لدفع حجج القائلين بفضل العرب على سائر الشعوب. ولم يكن الشعوبية يستطيعون الظهور في أيام بني أمية فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس وانحط شأن العرب بعد قتال الأمين والمأمون ظهروا وألفوا الكتب في مثالب العرب، فالدولة الأموية هي التي جعلت الإسلام دولة عصبية وسيفاً، وظل الكثير من عادات الجاهلية شائع في أيامهم كالمفاخرة والمباهلة ومناشدة الأشعار في الأندية العمومية فكان أشراف أهل الكوفة يخرجون إلى ظاهرها يتناشدون الأشعار ويتحادثون ويتذاكرون أيام الناس، وكان خارج البصرة بقعة يقال لها المربد يجتمع إليها الناس من البصرة وغيرها يتناشدون الأشعار ويتحادثون كما كانوا يفعلون في عكاظ.

العصبية الوطنية في عصر الأمويين

لم يكن للعرب قبل الإسلام روابط وطنية يجتمعون بها أو يدافعون عنها لأنهم كانوا لا يستقرون في وطن لتغلب البداوة على طباعهم وتنقلهم بالغزو والرحلة. فلما أسلموا وفتحوا البلاد ومصروا الأمصار وابتنوا المدن وأقاموا فيها تحضّروا ونشأت فيهم الغيرة على تلك المواطن للدفاع عنها والتعصب لها وهي ما عبّرنا عنه بالعصبية الوطنية.

تحضّر العرب بعد الفتح

وكان العرب (أو المسلمون) يقيمون في تلك المعسكرات التي أنشأوها حوالي المدن المفتوحة بأولادهم ونسائهم لا يختلطون بأهل القرى حتى إذا جاء الربيع يسرحون خيولهم للمرعى في القرى يسوقها الأتباع من الخدم أو العبيد ومعهم طوائف من السادات، فإذا فرغوا من رعاية الخيل عادوا إلى خيامهم وهم إلى ذلك الحين أهل بداوة وغزو ومركز دولتهم في المدينة وفيها مقرُّ الخليفة ومرجع المسلمين عند الحاجة فلما طال مقامهم في تلك المعسكرات وأفضت الخلافة إلى بني أمية ورغبوا في الشام عن الحجاز هان على المسلمين إغفال أمر المدينة وسائر الحجاز وطاب لهم المقام في الشام وسائر الأمصار فاقتنوا الأرضين والضياع وغرسوا الأشجار فتحولت تلك المعسكرات بتوالي الأجيال إلى مدن عامرة أشهرها البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان من المدن التي بناها المسلمون غير المدن القديمة التي استوطنوها في الشام ومصر والعراق وفارس وغيرها.

تعصب المدن الإسلامية بعضها على بعض

ومما زاد المسلمين رغبة في العصبية الوطنية انقسام الأحزاب السياسية يومئذ باعتبار المدن، وأول خلاف وقع بين بلدين إسلاميين الخلاف الذي وقع بين الشام والكوفة في أيام عثمان بن عفان ثم حدث الانقسام الوطني السياسي بعد مقتله وكان أساسه الميل إلى أحد طلاب الخلافة يومئذ وهم علي (عليه السلام) ومعاوية وطلحة والزبير فكان أهل الشام مع معاوية لأنه أميرهم ومعظمهم من قريش وكان أهل المدينة مع علي (عليه السلام) وهم الأنصار وتبعتهم مصر وكان أهل الكوفة مع الزبير وأهل البصرة مع طلحة، فكان لكل بلدٍ في عصر بني أمية مجتمع خاص يجتمع به ويحارب باسمه، وهو مؤلف من قبائل تختلف نسباً وعصبية وفيهم قبائل اليمن ومضر وربيعة وغيرها يقيم كل منها في حي خاص بها يعرف باسمها فكانت البصرة مثلاً مؤلفة من خمسة أقسام تُعرف بالأخماس كل خمس لقبيلة وهي الأزر وتميم وبكر وعبد القيس وأهل العالية. والمراد بأهل العالية بطون قريش وكنانة والأزد وبجيلة وخثعم وقيس غيلان كلها ومزينة، وقس على ذلك سائر البلاد، ففي أيام علي (عليه السلام) والخوارج كانت البصرة عثمانية والكوفة علوية والشام أموية والجزيرة خارجية والحجاز سنية وتقلبت هذه الأحوال كثيراً واختلفت باختلاف الدول، فحدث بتوالي التقلبات السياسية تعدد الاتجاهات، أولها: الاتجاه العصبي أو الاتجاه النسبي كما حصل بين مصر واليمن. والثاني: الاتجاه الوطني كما حصل بين العراق ومصر والشام. والثالث: الاتجاه المذهبي كما حصل بين الفرق الإسلامية كالسنة والشيعة والمعتزلة وربما اجتمعت كل هذه الاتجاهات في رجلين.

ومما ساعد على نشوء الاتجاه الوطني أن أهل الحجاز كانوا يجتمعون بالحرمين ويفاخرون المسلمين بهما لأن الإسلام لا يستغني عنهما وفيها شيعة علي ولاسيما المدينة، فكان الأمويون مع عداوتهم للعلويين لا يرون بدّاً من زيارة الحرمين ورعاية أهلهما فيقف ذلك عثرة في سبيل سلطانهم وخصوصاً بعد أن احتمى ابن الزبير بالكعبة وأخرج بني أمية وأحزابهم من الحجاز فلم يستطع الأمويون التغلب عليه إلا بضرب الكعبة بالمنجنيق ولهذا السبب خطر للأمويين أن ينقلوا منبر النبي (صلّى الله عليه وآله) من المدينة إلى الشام ليجمعوا عندهم الدين والسياسة. ولعل الحجاج بنى القبة الخضراء في واسط لمثل هذه الغاية كما بناها المنصور في بغداد بعد ذلك تصغيراً للكعبة والغرض من ذلك كله تحويل القلوب عن الحجاز وتصغير أمر العلويين فلم يجدهم ذلك نفعاً.

اصطناع الأحزاب في عصر الأمويين

ومما احتاج إليه بنو أمية في سبيل التغلب لنيل الخلافة اصطناع الرجال واجتذاب الأحزاب كما فعل معاوية بن أبي سفيان بكل وسيلة، على أنه كان إذا خاف عدواً لا يقدر عليه بالسيف ولا يستطيع اصطناعه بالمال احتال على قتله غيلة بالسم كما فعل بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد فدسّ إليه شربة عسل مسمومة مع بعض مماليكه فشربها ومات ونجا معاوية منه. وفعل نحو ذلك بالأشتر النخعي مالك بن الحارث وكان من أشدّ رجال علي (عليه السلام) بطشاً أو هو أشدهم جميعاً وقد أبلى معه في صفين بلاءً حسناً. فكان معاوية وأصحابه لا يضيعون فرصة ولا يبالون في تنفيذ أغراضهم ما يرتكبون من القتل أو نحوه. أما علي (عليه السلام) وأصحابه فكانوا لا يحيدون عن مناهج الدين ومقتضى الأريحية. فبالدهاء ونحوه تمكن معاوية من نيل الخلافة وتوريثها لابنه ثم صارت في بني مروان من أمية ولكنه لم يستطع قطع شأفة المقاومين من طلاب الخلافة وهم كثيرون أهمهم أولاد علي (عليه السلام). على أنه كان يسكتهم بالمسالمة والبذل وكانوا يهابونه ويسكنون إلى سياسته ويتوقعون من الجهة الأخرى رجوع الخلافة إليهم بعد موته، فلما رأوه نقلها إلى ابنه يزيد ثار المطالبون بالخلافة في الحجاز والعراق وغيرهما وكل منهم يزعم أنه صاحب الحق بها، فاجتمعت سنة 68هـ أربعة ألوية في عرافات كل منها لزعيم يطلب الخلافة لنفسه إحداها لبني أمية والأخرى للعلويين باسم محمد بن الحنفية والثالثة لعبد الله بن الزبير والرابعة لنجدة الحروري من الخوارج ثم قام غيرهم ولم يفز بالملك إلا بنو أمية للعصبية العربية واصطناع الأحزاب ببذل الأموال وذلك ما جرّ بني أمية إلى خرق كثير من القواعد فقد كانت الأموال التي ترد على بيت المال تعد ملكاً للمسلمين، وليس الخليفة أو عامله إلا حافظاً لها ينفقها في مصالحهم وتدبير شؤونهم وله منها راتب معين يأخذه مثل سائر المسلمين.

عمال بني أمية

فلما اضطر بنو أمية إلى اصطناع الرجال وجمع الأحزاب واسترضاء القبائل وبناء المدن أغضوا عن كثير من تلك الأحكام وتوفقوا إلى عمال أشداء لا يبالون بالدين ولا أحكامه في سبيل أغراضهم مثل زياد بن أبيه عامل معاوية، وعبيد الله بن زياد عامل ابنه يزيد، والحجاج بن يوسف عامل عبد الملك بن مروان، وخالد القسري عامل هشام بن عبد الملك وغيرهم. فكان الخلفاء يكتبون إلى عمالهم بجمع الأموال وحشدها والعمال لا يبالون كيف يجمعونها فقد كتب معاوية إلى زياد يقول (اصطف لي الصفراء والبيضاء) فكتب زياد إلى عماله بذلك وأوصاهم أن يوافوه بالمال ولا يقسموا بين المسلمين ذهباً ولا فضة، وكان العمال من الجهة الأخرى يختصون أنفسهم بجانب من تلك الأموال وليس ثمة من يحاسبهم وقد أطلق الخلفاء أيديهم في الأعمال ترغيباً لهم في البقاء على ولائهم. فكان العمال يختزنون لأنفسهم الأموال الطائلة حتى بلغت غلة أحدهم 10.000.000 درهم في السنة وزادت ثروته على 100.000.000 درهم وزادت نفقاتهم زيادة فاحشة ولم يعد عندهم لراتب العمالة قيمة حتى كتب أمية بن عبد الله إلى عبد الملك بن مروان يقول: (إن خراج خراسان لا يفي بمطبخي).

أخذهم الجزية عن المسلمين

فكان العمال يبذلون الجهد في جمع الأموال بأية وسيلة كانت ومصادرها الجزية والخراج والزكاة والصدقة والعشور. وأهمها في أول الإسلام الجزية لكثرة أهل الذمة فكان عمال بني أمية يشددون في تحصيلها فأخذ أهل الذمة يدخلون في الإسلام فلم يكن ذلك لينجيهم منها لأن العمال عدّوا إسلامهم حيلة للفرار من الجزية وليس رغبةً في الإسلام فطالبوهم بالجزية بعد إسلامهم. وأول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف واقتدى به غيره من عمال بني أمية في أفريقية وخراسان وما وراء النهر فارتدّ الناس عن الإسلام وهم يودّون البقاء فيه وخصوصاً أهل خراسان وما وراء النهر فإنهم ظلوا إلى أواخر أيام بني أمية لا يمنعهم عن الإسلام إلا ظلم العمال بطلب الجزية منهم بعد إسلامهم. فلما تولى أشرس سنة 110هـ على خراسان كان أهل سمرقند قد ارتدوا عن إسلامهم فبعث إليهم رجلاً اسمه أبو الصيداء فقال الرجل: (أخرج إليهم على شريطة أن من أسلم لا تؤخذ منه الجزية) فقال أشرس: (نعم) فشخص إلى سمرقند ودعا أهلها إلى الإسلام على أن توضع الجزية عنهم. فسارع الناس إلى الإسلام وقل الخراج فكتب عاملها إلى أشرس: (إن الخراج قد انكسر) فأجابه: (إن في الخراج قوة للمسلمين وقد بلغني أن أهل الصغد وأشباههم لم يسلموا رغبة في الإسلام وإنما أسلموا تعوذاً من الجزية فانظر من اختتن وأقام الفرائض وقرأ سورة من القرآن فارفع خراجه) ففعل الناس ذلك وبنوا المساجد وكتب العمال بذلك إلى أشرس فأجابهم: (خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه) فأعادوا الجزية على من أسلم فامتنعوا واعتزلوا في سبعة آلاف على عدة فراسخ من سمرقند وسبّب ذلك فتنة ارتدّ عن الإسلام بسببها أهل الصغد وبخارى واستجاش الترك. ومازالوا كذلك حتى تولى خراسان نصر بن سيار وقد عرف موضع الخطأ فأعلن سنة 121هـ أنه وضع الجزية عمن أسلم وجعلها على من كان يخفف عنه من المشركين فلم يمض أسبوع حتى أتاه 30.000 مسلم كانوا يؤدون الجزية. ناهيك بما كان يرتكبه بنو أمية من زيادة الخراج وضرب الضرائب والاستئثار بالفيء. ولم يقم من خلفائهم من نهى عن ذلك إلا عمر بن عبد العزيز.

الاستخفاف بالدين وأهله

لما طلب الأمويون الخلافة لأنفسهم وهم يعلمون أن أهل البيت أحقّ بها منهم وأن حجة أهل البيت في طلبها مبنية على أساس صحيح كان أكثر الفقهاء والعلماء وسائر رجال الدين يرون رأيهم ويؤيدون دعوتهم ولكن العصبية كانت مع الأمويين والقوة غالبة. أما الفقهاء وسائر أهل التقوى فكانوا لا ينفكون عند سنوح الفرصة عن تفضيل أهل البيت وتذكير الأمويين بما يرتكبونه ـ في سبيل التغلب ـ من الظلم والقسوة والتعدي ويعظونهم ويذكّرونهم بتقوى الله. حتى إذا أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان عمد إلى الشدة والعنف فحج سنة 57هـ بعد مقتل ابن الزبير ولما جاء المدينة وفيها أنصار أهل البيت خطب فيهم خطاباً قال فيه:

(أما بعد فإني لست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون ـ يعني يزيد ـ ألا وإني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم بي قناتكم وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم. وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه).

الاستهانة بالقرآن والحرمين

وعبد الملك هذا كان يرى الشدة ويجاهر بطلب التغلب بالقوة والعنف ولو خالف أحكام الدين. وقد يتبادر إلى الذهن أنه فعل ذلك اقتداءً بعامله ونصيره ومؤيد دولته الحجاج بن يوسف ولا نظنه مقتدياً بذلك لأنه صرّح باستهانته بالدين منذ ولي الخلافة وكان قبلها يتظاهر بالتدين فلما تولاها استهوته الدنيا، ذكروا أنه لما جاءوه بخبر الخلافة كان قاعداً والمصحف في حجره فأطبقه وقال: (هذا آخر العهد بك، أو هذا فراق بيني وبينك) فلا غرو بعد ذلك إذا أباح لعامله الحجاج أن يضرب الكعبة بالمنجنيق وأن يقتل ابن الزبير ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة والكعبة حرم لا يجوز القتال فيها ولا في جوارها فأحلوه وظلوا يقتلون الناس فيها ثلاثاً وهدموا الكعبة وهي بيت الله عندهم وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها مما لم يحدث مثله في الإسلام. ودخلوا المدينة وهي أحد الحرمين وقاتلوا أهلها وسفكوا دماءَهم ولم يغلق لها باب إلا أُحرق ما فيه حتى أن الأقباط والأنباط كانوا يدخلون على نساء قريش فينزعون خمرهن من رؤوسهن وخلاخلهن من أرجلهن وسيوفهم على عواتقهم والقرآن تحت أرجلهم. ناهيك بمن قتلوه من الصحابة والتابعين وأهل التقوى صبراً وإنما أرادوا بذلك تحقير أمر علي (عليه السلام) وشيعته تأييداً لسلطانهم. ولهذا السبب لعنوه على المنابر وأمروا الناس بلعنه وقتلوا من لم يلعنه. وأول من قُتل صبراً في هذا السبيل حجر بن عدي الكندي في أيام معاوية وظلوا يلعنون علياً على المنابر إلى أيام عمر بن عبد العزيز فأبطل ذلك.

الخلافة والنبوة

وتوفق بنو أمية إلى عمال أشداء زادوهم استبداداً وشدة بما توخوه من تمليقهم بالتعظيم والتغرير مما يخالف أحكام الدين. وأول من تجرأ على ذلك الحجاج بن يوسف عامل عبد الملك فإنه سمى الخليفة (خليفة الله) وعظّم أمر الخلافة حتى فضّلها على النبوة فكان يقول: (ما قامت السماوات والأرض إلا بالخلافة وإن الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين لأن الله خلق آدم بيده وأسجد له الملائكة وأسكنه جنته ثم أهبطه إلى الأرض وجعله خليفة وجعل الملائكة رسلاً) وإذا حاجّه أحد في ذلك قال: (أخليفة أحدكم في أهله أكرم عليه أم رسوله في حاجته؟)، وكان عبد الملك إذا سمع ذلك أعجب به، واقتدى بالحجاج من جاء بعده من العمال الأشداء كخالد القسري عامل هشام بن عبد الملك فقد كان يقول قول الحجاج وخطب الناس في مكة مرة فقال: (أيها الناس أيهما أعظم خليفة الرجل إلى أهله أو رسوله إليهم؟) يعرض أن هشاماً خير من النبي (صلّى الله عليه وآله).

وذكروا أن خالداً القسري كان قليل العناية في حفظ القرآن فإذا تلا آية أخطأ فيها وألحن في نطقها فوقف مرة للخطابة فقال وأخطأ ثم ارتج عليه وفشل فنهض صديق له من تغلب فقال: (خفّض عليك أيها الأمير ولا يهولنّك فما رأيت قط عاقلاً حفظ القرآن وإنما يحفظه الحمقى من الرجال).

فلا غرو بعد ذلك إذا قيل لنا أن الوليد بن يزيد سكير بني مروان رمى القرآن بالنشاب وهو في مجونه وسكره فقد ذكروا أنه عاد ذات ليلة بمصحف فلما فتحه وافق ورقة فيها: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ)(1) فأمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس والنبل وجعل يرميه حتى مزقه ثم قال:

أتوعد كل جبـــــارٍ عنيدٍ***فهــا أنا ذاك جبار عنيدُ

إذا لاقيت ربك يوم حشرٍ***فقـــل لله مزقنـي الوليدُ

فلم يكن همّ بني أمية نشر الإسلام وإنما كان همهم الفتح والتغلّب وحشد الأموال فتوقف نشر الإسلام على عهدهم في الأطراف البعيدة كالسند وتركستان مع رغبة أهلهما فيه وإنما نفّرهم منه شدة بني أمية وجشعهم فكانوا يسلمون ثم يرتدون تبعاً لما يرونه من المعاملة الحسنة أو السيئة.

الفتك والبطش في عصر الأمويين

تولى الخلافة معاوية وسلّم الأعمال إلى دهاته في العراق وفارس ومصر وغيرها، حيث أخذوا الناس بالشدة، وأول من توخّى الشدة والعنف زياد بن أبيه عامل معاوية على العراق وهو أول من شدّد أمر السلطة وأكّد الملك لمعاوية فجرّد سيفه وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة وتولى العراق بعده ابنه عبيد الله بن زياد في خلافة يزيد بن معاوية فكان كذلك، ولما أفضت ولاية العراق إلى الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان (65 ـ 86هـ) وقد كثر المطالبون بالخلافة أراد الحجاج أن يتشبّه بزياد وابنه بالشدة والعنف فبالغ في ذلك حتى أهلك ودمّر، وقد أعانته شدة عبد الملك على المبالغة في الشدة فأكبر المسلمون ذلك ونقموا على تلك الدولة وكثر الخارجون عليها واتهموا خلفاءها بالمروق من الدين. ومن أقوال الخوارج فيهم: (إن بني أمية فرقة بطشهم بطش جبارين يأخذون بالظنة ويقضون بالهوى ويقتلون على الغضب) وكان الخلفاء من بني أمية يرون في إطلاق أيدي عمالهم أو قوّادهم تشجيعاً لهم وتنفيذاً لأغراضهم، وربما حرّضهم الخليفة على الفتك عند الحاجة حتى في أيام معاوية فإنه أرسل بسر بن أرطاة بعد تحكيم الحكمين وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يومئذ حيّ وأرسل معه جيشاً، ويقال أنه أوصاهم أن يسيروا في الأرض ويقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي (عليه السلام) ولا يكفّوا أيديهم عن النساء والصبيان، فسار بسر على وجهه حتى انتهى إلى المدينة فقتل فيها أناساً من أصحاب علي (عليه السلام) وهدّم دورهم ومضى إلى مكة وغيرها يقتل ويهدم حتى أتى اليمن وعليها عبيد الله بن عباس عامل علي (عليه السلام) وابن عمه كان غائباً فراراً من القتل فوجد بسر ابنين له صبيين اسمهما عبد الرحمن وقثم فأخذهما وذبحهما بيده بمدية كانت معه، وذكروا أن الغلامين كانا عند رجل من كنانة بالبادية فلما أراد بسر قتلهما قال الكناني:

(تقتل هذين ولا ذنب لهما فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما) فقتله وقتلهما معه فصاحت امرأة من كنانة: (يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية ولا الإسلام والله يا بن أرطاة إن سلطاناً لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء) وقالت أم الصبيين شعراً في رثائهما كانت تنشده في المواسم مطلعه:

يا من أحسَّ بابنيّ اللذين هما***كالدرّتين تشظى عنهما الصدف

فهل يُستغرب ما يقال عن فتك الحجاج وكثرة من قتلهم صبراً ولو كانوا 120.000؟ وهل يُستبعد أن يكون في حبسه عند موته 50.000 رجل و30.000 امرأة؟ وكان عبد الملك أشد وطأة منه وأجرأ على الغدر والفتك بل هو أول من غدر في الإسلام بعد أن أعطى الأمان وذلك أن عمرو بن سعيد الأشدق أحد أمراء عبد الملك طمع بالملك لنفسه فاغتنم خروج عبد الملك من دمشق سنة 69هـ لحرب مصعب بن الزبير في العراق وجاء إلى الشام ووضع يده عليها، فبلغ عبد الملك ذلك وهو في الطريق فرجع حالاً إلى دمشق وقاتل عمرواً أياماً فلم يقدر عليه فخاف على سلطانه فاحتال في عقد الصلح فرضي عمرو وكتب بينهما كتاباً فيه أمان عبد الملك له. فاطمأن خاطر عمرو المذكور وخرج إلى الخليفة حتى أوطأ فرسه أطناب عبد الملك ثم دخل عليه فاجتمعا ودخل عبد الملك دمشق.

وبعد دخوله بأربعة أيام أرسل إلى عمرو فأجابه أنه آتٍ العشية وأتاه في مائة من مواليه ودخل على عبد الملك وعنده جماعة من بني مروان وقد بقى مواليه خارجاً فاستقبله عبد الملك حتى أجلسه معه على السرير وجعل يحادثه ثم أمر أحد الغلمان أن يأخذ سيفه وقال له: (أتطمع أن تجلس معي متقلداً سيفك) فأعطاه السيف. ثم قال عبد الملك: (يا أبا أمية (عمرو) إنك حينما خلعتني آليت بيمين إن أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجعلك في جامعة) فقال له الحضور من بني مروان: (ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟) قال: (نعم وما عسيت أن أصنع بأبي أمية) فقال بنو مروان لعمرو: (أبرّ قسم أمير المؤمنين) فقال: (قد أبرّ الله قسمك يا أمير المؤمنين) فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعة وقال: (يا غلام قم فاجمعه فيها) فقام الغلام فجمعه فيها فقال عمرو: (أُذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس) فقال: (أمكرٌ يا أبا أمية عند الموت؟ لا والله ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس) ثم جذبه جذبةً فوقع وأصاب فمه السرير فكسر ثنيه فقال عمرو: (أُذكر الله يا أمير المؤمنين كسر عظم مني فلا تركب ما هو أعظم من ذلك) فقال عبد الملك: (لا والله لو أعلم أنك تبقي علي لو أبقيت عليك وتصلح قريش لأطلقتك ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة قط على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه) فلما رأى أنه يريد قتله قال: (أغدرٌ يا بن الزرقاء؟) ثم قتله عبد الملك. وكانوا يقطعون الرؤوس ويطوفون بها في الأسواق والبلاد كما فعلوا برأس عمرو بن الحمق ومحمد بن أبي بكر ومسلم وهاني والإمام الحسين (عليه السلام). وصار قطع الرؤوس على هذه الصورة سُنّة في عصر بني أمية ومن جاء بعدهم من بني العباس وصار للرؤوس في دار الخلافة خزانة يحفظون فيها كل رأس في سفط خاص وجرت العادة أيضاً بصلب الجثث أو الرؤوس ومن هذا القبيل تشديدهم في العذاب قبل القتل ولعل ذلك من مخترعات الحجاج لإرهاب أعدائه وإخضاعهم بالعنف، فمن ضروب التعذيب أنه كان يأتي بالقصب الفارسي فيشقه ويشده على الرجل وهو عارٍ ثم يسله قصبة قصبة حتى يقطع جسده ثم يصب عليه الخل والملح حتى يموت.


الموالي وتكاثرهم في عصر الأمويين

أفضت الخلافة إلى الأمويين في أواسط القرن الأول للهجرة وعدد الموالي آخذ في الزيادة بموالاة الفتح وتكاثر الرقيق بالأسر أو الإهداء لأن العمال كثيراً ما كانوا يبعثون بمئات أو ألوف من الرقيق الأبيض والأسود إلى بلاط الخليفة هدية أو بدلاً من الخراج أو نحوه والخليفة يفرق ذلك في أهل بطانته أو قواده وهؤلاء يفرّقونه في من حولهم أو يبيعونه فينتقل إلى الناس على اختلاف طبقاتهم.

نقمة الموالي على العرب

فلما تكاثر الموالي ورأوا ما كان فيه الأمويون من التعصب للعرب على سواهم ولاسيما الموالي حتى كانوا يستخدمونهم في الحروب مشاة ولا يعطونهم عطاءً ولا شيئاً من الغنائم أو الفيء عَظُم ذلك عليهم ورأوا في نفوسهم قوة فنفرت قلوبهم من بني أمية وأصبحوا عوناً لكل من خلع الطاعة أو طلب الخلافة من العلويين أو الخوارج. وأشهر من حاربهم بالموالي والعبيد المختار بن أبي عبيدة الذي قام في العراق للمطالبة بدم الحسين (عليه السلام) سنة 66هـ ثم طلب الخلافة لمحمد بن الحنفية، فالمختار المذكور أطمع موالي العراق بالغنيمة وأركبهم على الدواب وكانوا ناقمين على أسيادهم ومواليهم لسوء معاملتهم فجاءوا متطوعين.

زواج الموالي بالعربيات

على أن الموالي في أيام بني أمية كانوا على الإجمال أعداء الدولة يقومون عليها مع القائمين انتقاماً لما كانوا يقاسونه من الاحتقار والجور من عصبية العرب على العجم فازداد الأمويون تحقيراً لهم، فبعد أن قال النبي (صلّى الله عليه وآله): (مولى القوم من أنفسهم)(2) منعوا زواجهم بالعربيات، فإذا تجرأ مولى على الزواج بعربية وبلغ أمره إلى الوالي طلّقها منه كما حدث لأعراب بني سليم في الروحاء فإنهم جاءوا الروحاء فخطب إليهم بعض مواليها إحدى بناتهم فزوجوه فوشى بعضهم إلى والي المدينة بذلك ففرق الوالي بين الزوجين وضرب المولى مائتي سوط وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه، وكثيراً ما كانوا يفعلون مثل ذلك بالموالي ولو كانوا من أهل المنزلة الرفيعة أو أهل العلم والتقوى فإن عبد الله بن عون من كرام التابعين ولكنه كان مولى فتزوّج عربية فضربه بلاد بن أبي بردة بالسياط.

فتزويج المولى بالعربية بالغ الأمويون في تقبيحه تعصباً للعرب على سواهم وهو عندهم أقبح من زواج العربي بغير العربية، ولكن ذلك لم يكن محرماً في الدين ولا اعتبره أهل التقوى. فعلي بن الحسين بن علي المعروف بزين العابدين (عليه السلام) وهو أحد الأئمة الاثني عشر ومن سادات التابعين كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، فلما توفي أبوه زوجها بثريد مولى أبيه وأعتق جارية له وتزوجها فكتب إليه عبد الملك بن مروان يعيّره بذلك. فكتب إليه زين العابدين (عليه السلام): (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وقد أعتق رسول الله صفية بنت حي بن أخطب وتزوّجها وأعتق زيد بن حارثة وزوجه بنت عمته زينب بنت جحش).

فالإسلام يرفع منزلة المولى وأما الأمويون فرأوا تحقيره باعتبار أنه غير عربي. وجملة القول أن تعصب بني أمية للعرب جرّهم إلى تحقير غير العرب وخصوصاً الموالي فنقم هؤلاء عليهم وكانوا أكبر المساعدين في إخراج الدولة من أيديهم.

أهل الذمة وأحكامهم في عصر الأمويين

عهود أهل الذمة في أول الإسلام

الذمة في اللغة العهد والأمان والضمان وأهل الذمة هم المستوطنون في بلاد الإسلام من غير المسلمين. قيل لهم ذلك لأنهم دفعوا الجزية فأمنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم وأكثرهم من النصارى واليهود وقد دعاهم القرآن (أهل الكتاب) نسبة إلى التوراة والإنجيل وقد أثنى عليهم وأوصى بهم خيراً. وفي الحديث النبوي أقوال كثيرة في الإحسان إلى أهل الذمة وخصوصاً قبط مصر فقد رووا عن النبي (عليه السلام) أنه قال: (إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمةً ورحماً)(3) إشارة إلى أن أم إسماعيل أبي العرب منهم. وقال: (الله الله في أهل الذمة المدرة السوداء السحم الجعاد فإن لهم نسباً وصهراً) وفي تاريخ الفتوح عهود كثيرة كتبت لأهل الذمة عاهدهم المسلمون فيها بحمايتهم وتسهيل أعمالهم في مقابل ما يؤدونه من الجزية ككتاب النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى صاحب أيلة (في العقبة) وإلى أهل أذرح في أثناء غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة. وهاك كتاب النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى صاحب أيلة:

(بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليحيى بن روية وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيِّب لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ما يردونه ولا طريقاً يردونه من بر أو بحر) واقتدى بالنبي (صلّى الله عليه وآله) قواده في أثناء الفتح بالشام ومصر والعراق وفارس وكتبوا العهود لأهل الذمة على نحو ما تقدم في مقابل الجزية. أما شروط الصلح فكانت تختلف شدة ورفقاً باختلاف البلاد والأحوال التي فتحت بها فصلح مصر يختلف عن صلح الشام وصلح الشام غير صلح العراق.

الأمويون وأهل الذمة

كذلك كانت أحكام الذمة لما أفضت الخلافة إلى بني أمية وكانوا لا يخافون الروم على الشام لأن مقرّ خلافتهم فيها وقد احتلوا الشواطئ وتغلبوا على أهلها وصاروا يغزون الروم في البحر. على أنهم ضيقوا على أهل الذمة من جهة الجزية في جملة مساعيهم في حشر الأموال لاصطناع الأحزاب والتمتع بأسباب الدنيا فزادوا الجزية والخراج وشددوا في تحصيلهما وضيقوا على الناس حتى أخذوا الجزية ممن أسلم. وأما من بقي على دينه من أهل الكتاب فكانوا يسومونهم سوء العذاب ويحتقرونهم لأنهم ليسوا عرباً ولا مسلمين. ولا غرابة في ذلك بعد ما علمت من احتقار بني أمية لغير العرب من المسلمين. وكانوا يعدّون الناس ثلاث درجات: أولها العرب ثم الموالي ثم أهل الذمة، ويؤيد ذلك رأي معاوية في أهل مصر قال: (وجدت أهل مصر ثلاثة أصناف: فثلث ناس، وثلث يشبه الناس، وثلث لا ناس. فأما الثلث الذين هم ناس فالعرب والثلث الذين يشبهون الناس فالموالي والثلث الذين هم لا ناس فالمسألة) يعني القبط.

ولما رأى القبط أن الإسلام لا ينجيهم من الجزية أو العنف في تحصيلها عمد بعضهم إلى التلبس بثوب الرهبنة، والرهبان لا جزية عليهم فأدرك عمال بني أمية غرضهم فوضعوا الجزية على الرهبان وازدادوا غيظاً منهم حتى أراد بعضهم أخذها من الأموات فضلاً عن الأحياء بأن يجعلوا جزية الموتى على أحيائهم. ونظراً لاهتمام بني أمية بجمع الأموال للأسباب التي قدمناها وأهل الذمة أقدر على مساعدتهم في جمعها من سواهم لاقتدارهم في الحساب والكتابة وأعمال الخراج استخدموهم في هذا السبيل رغم إرادتهم ولم يكن يهمهم ذلك من وجه ديني لنشر الإسلام أو حصر النصرانية ولولا ذلك ما ولوا خالداً القسري العراقين وأمه نصرانية رومية كان يراعي جانبها ويكرم النصارى من أجلها فاعتز النصارى في أيامه. وأراد خالد أمه على الإسلام فلم تسلم فابتنى لها بيعة في ظهر القبلة بالمسجد الجامع في الكوفة فكان المؤذن إذا أراد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس وكان خالد يولي النصارى والمجوس على المسلمين ويطلق أيديهم في الحكومة فيستبدون بالمسلمين. وعمر بن أبي ربيعة الشاعر المشهور كانت أمه نصرانية ماتت والصليب في عنقها وكان النصارى في أيام بني أمية يدخلون المساجد ويمرون فيها فلا يعترضهم أحد. وكان الأخطل الشاعر النصراني يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن وهو سكران وفي صدره صليب ولا يعترضه أحد ولا يستنكفون من ذلك لأنهم كانوا يستعينون به في هجاء الأنصار.

على أن بعض الخلفاء من بني أمية كانوا إذا قرّبوا نصرانياً أو يهودياً طلبوا إليه أن يدخل في الإسلام فلا يمنعه من الرفض مانع إلا من يغضب الخليفة عليه ولم يكن يحتاج إليه فينتقم منه كما أصاب شمعلة وكان من رهط الفرس نصرانياً فدخل على بعض خلفاء بني أمية فقال له: (أسلم يا شمعلة) قال: (لا والله لا أسلم أبداً ولا أسلم إلا طائعاً إذا شئت) فغضب وأمر فقطعت بضعة من فخذه وشويت بالنار وأطعمها. أما الأخطل فإن عبد الملك قال له مرة: (ألا تسلم فنفرض لك في الفيء ونعطيك عشرة آلاف) قال: (كيف بالخمر؟) قال: (وما نصنع بها وإن أولها لمرّ وآخرها لسكر) فقال: (أما إذا قلت ذلك فإن بين هاتين لمنزلة ما ملكك فيها إلا كلعقة ماء من الفرات بالإصبع) فضحك.

ولولا معاوية وعبد الملك وهشام لذهبت الدولة من أيديهم عاجلاً لما تداول الخلافة بينهم من الخلفاء الضعفاء أهل الترف واللهو والقصف. وأولهم يزيد بن معاوية المتوفى سنة 64هـ فقد كان مغرماً بالصيد كثير العناية باقتناء الجوارح والكلاب والقرود والفهود. وكان يحب الطرب والمنادمة على الشراب فجرى عماله على مثاله وأظهروا الشرب وفي أيامه ظهر الغناء في مكة والمدينة واستعملت الملاهي ولم يكن المسلمون يعرفونها قبل ذلك.

ومنهم يزيد بن عبد الملك توفي سنة 105هـ ويسمونه خليع بني أمية فقد تولى الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز وسار في طريق غير طريقه فشغف بجاريتين اسم إحداهما سلامة والأخرى حبابة فقطع معهما زمانه. وغنت يوماً حبابة:

بين التراقي واللهاة حرارة***ما تطمئـن ولا تسوغ فتبرد

فأهوى يزيد ليطير فقالت: (يا أمير المؤمنين لنا فيك حاجة) فقال: (والله لأطيرن) فقالت: (على من تدع الأمة) فقال: (عليك) وقبّل يدها، وخرج يوماً ليتنزه في ناحية الأردن ومعه حبابة وبينما هما في الشراب رماها بحبة عنب فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت. فتركها ثلاثة أيام لم يدفنها حتى أنتنت وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي فكلموه في أمرها حتى أذن بدفنها وعاد إلى قصره كئيباً حزيناً وسمع جارية له تتمثل بعدها:

كفى حزناً بالهائم الصب أن يرى***منــازل من يهوى معطلة قفرا

فبكى وبقي يزيد بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس أشار عليه أخوه مسلمة بذلك مخافة أن يظهر منه ما يسفّهه عند الناس ولم يحكم إلا أربع سنوات.

ومنهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك المتوفى سنة 126هـ وكان خليعاً سكيراً همه الصيد وشرب الخمر حتى جعل الخمر في برك يغوص فيها ويشرب وأول شيء فعله لما ولي الخلافة أنه بعث إلى المغنيين في المدينة ومكة وأشخصهم إليه واستقدم أهل المجون والخلاعة ونادمهم وبالغ في التهتك والمسكر ولكنه لم يحكم إلا سنة واحدة. فلما انغمس بنو أمية بالترف والقصف مع ما كان من تعصبهم على غير العرب واحتقارهم الموالي وإساءتهم إلى أهل الذمة وسائر أهل القرى بما كانوا يسومونهم إياه من نهب غلّتهم في أثناء السفر، إذ كان جند المسلمين في أواخر أيام بني أمية إذا مروا بقرية غصبوا أموال من يمرون به فأصبح الناس يتحدثون بقرب زوال دولتهم ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى ذهبت وقامت الدولة العباسية مقامها.

 

 

 

مصر في عصر الدولة العباسية
__________

العباسيون هم سلالة العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدع أحد من العباسيون لنفسه الخلافة طيلة القرن الأول الهجري فقد كرسوا جهودهم لمناصرة أبناء على بن أبي طالب حيث كانوا يرون أنهم أبناء بيت واحد هو بيت النبي عليه الصلاة والسلام .

وقد توفي العباس زمن حكم معاوية ابن أبي سفيان سنة 32 هـ / 652م وسار ابنه عبد الله بن عباس على نهجه فى الإيمان بحق على بن أبي طالب فى الخلافة ، ثم تابع ابنه على بن عبد الله بن العباس السير على سياسة جده فى تأييده لأبناء على بن أبي طالب فى دعواهم للخلافة.

وكان أن أقام بن العباس فى مدينة الحميمة وهى قرية على أطراف الشام شرق الأردن ومعه نفر من أبناء على بن أبي طالب رضى الله عنه وعلى رأسهم أبو هاشم بن محمد بن الحنفية هربا من الأمويين ومراقبتهم للعباسيين والعلويين وتتبع نشاطهم ، وقد نجح أبو هاشم بن محمد فى تمهيد التشيع لأبناء على بن أبي طالب رضى الله عنه وخاصة بعد مقتل الحسين الأمر الذى أدي إلى خوف الأمويين من أبو هاشم مما دعاهم إلى دس السم له وعندما أحس أبو هاشم بدنو أجله أسرع إلى مدينة الحميمة حيث قام بالتنازل عن حقه فى الخلافة إلى على العباسي ، وهنا جاء هذا التنازل نقطة تحول هامة فى التاريخ الإسلامي إذ بدأ العباسيون يعملون على نقل الخلافة إلى بيتهم بعد أن اقتصر نشاطهم على مناصرة أبناء على بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد أجاد العباسيون تنظيم دعوتهم حتى بعد وفاة على العباسي وانتقال الخلافة إلى ابنه محمد الذى قام بتعبئة صفوف الرافضين للخلافة الأموية دون إثارة الشكوك ضده ، فكانت الدعوة التى يدعون إليها هي " الرضا من آل محمد " دون تحديد للبيت المقصود له الخلافة ، ولقد بدأ العباسيون يدبرون أمر دعوتهم فى مدينة " خراسان " ولكن تقرر على أرض مصر مصير هذه الدعوة بالرغم من قيامها ببلاد فارس حيث أعلن قائد العباسيين أبو مسلم الخراساني الثورة على الأمويين سنة 129 هـ ودارت بين الأمويين والعباسيين معركة بدأت أولا عند نهر الزاب أحد روافد نهر دجلة ثم نقلت المعركة إلى مصر حيث انتصرت جيوش العباسيين بقيادة صالح بن على العباسي على الأمويين وقتل الخليفة الأموي مروان الثاني فى شهر ذى الحجة سنة 132هـ وذلك عند بلدة أبو صير من أعمال الجيزة .

 

بعد انتصار العباسيون على الأمويين وتمكنهم من الخلافة ودخولهم مصر قام القائد العباسي صالح بن على بإقامة عاصمة له بمصر أطلق عليها اسم " العسكر " وذلك سنة 132 هـ / 750 م بدلا من مدينة الفسطاط التى أقامها عمرو بن العاص ، وكانت مدينة العسكر تقع فى الفضاء الواقع فى الشمال الشرقي من الفسطاط الممتد من النيل حتى جبل يشكر فى منطقة كانت تعرف فى صدر الإسلام باسم " الحمراء القصوى " ، كما قام الوالي صالح بن علي بتشييد " دار الإمارة " إلى جانب ثكنات الجند ، وفى سنة 169 هـ / 785م أسس الوالي الفضل بن صالح مسجدا إلى جانب دار الإمارة بمدينة العسكر التى أخذ العمران يزداد بها حتى اتصلت بمدينة الفسطاط وأصبحتا مدينة واحدة خطت فيها الطرقات وشيدت بها المساجد والدور والأسواق

 

مصر في عصر الدولة الطولونية
_________
تنسب الدولة الطولونية إلى مؤسس هذه الدولة وهو أحمد بن طولون ، كان والده أحد الأتراك الذين أرسلوا إلى الخليفة المأمون العباسي حيث نال إعجاب الخليفة الذى ظل يمنحه المناصب حتي وصل طولون إلى منصب " أمير الستر " وهو يشبه منصب رئيس الحرس الخاص وظل طولون يخدم الخلفاء العباسيين حتي عهد الخليفة المأمون ثم الخليفة المعتصم بالله فى مدة بلغت عشرين عاما .

وقد أنجب طولون عدة أبناء منهم ابنه أحمد الذى ولد سنة 220 هـ / 835 م ، ولما توفي طولون كان ابنه أحمد فى العشرين من عمره فتولي المنصب الذى كان يشغله والده وارتقي فى الوظائف ، وقد بدأت صلة أحمد بن طولون بمصر حين أقطع الخليفة المعتز بالله بلاد مصر سنة 235 هـ لأحد القادة الأتراك من أصحاب النفوذ فى بغداد وكان فى ذلك الوقت اسمه " باك باك "

وقد فضل هذا القائد البقاء فى عاصمة الخلافة بغداد وعهد إلى أحمد بن طولون بإدارة مصر نيابة عنه وذلك لما عرف عنه من خبرة وكفاءة وأمده بجيش دخل به مصر سنة 253 هـ / 868 م ، إلا أن أحمد بن طولون لم يلبث أن اتسع سلطانه وبدأت جهوده للاستقلال سياسيا بمصر ودعم هذا الاستقلال بتنظيم موارد البلاد المالية والقضاء على الفتن والفوضى والثورات الداخلية .

وعلى الرغم من عدم موافقة الخلافة العباسية على استقلال أحمد بن طولون بمصر واحتدام الخلاف بين أحمد بن طولون و " الموفق طلحة " أخو الخليفة العباسي المعتمد وهو الخلاف الذى ظل ثلاثة عشر عاما إلا أن الخلافة العباسية اضطرت بالرغم من ذلك أن تعهد بحكم الشام ومناطق الثغور الشامية إلى أحمد بن طولون لقدرته على الدفاع عنها ضد غارات الروم البيزنطيين وهو الأمر الذى استغله أحمد بن طولون وأنشأ معه جيشا وأسطولا صارا عماد استقلاله الحقيقي ومصدر هيبته فى العالم الإسلامي والبيزنطي .

ولقد اهتم أحمد بن طولون بإرساء قواعد حكمه فى مصر وذلك بأن قام بإنشاء عاصمة جديدة لحكمه بدلا من العسكر بعد أن رأى أن مدينة العسكر لا تتسع لحاشيته وتضيق بمطامعه فأسس مدينة القطائع فى شعبان سنة 256 هـ / 870 م وكانت حدودها تمتد بين حد الفسطاط الشمالي عند جبل يشكر وبين سفح المقطم فى مكان عرف فى ذلك الوقت باسم قبة الهواء وفيما بين الرميلة تحت القلعة ، كما اختط أحمد بن طولون قصره ثم شيد جامعه المعروف باسمه فى وسط مدينة القطائع على جبل عرف باسم جبل يشكر نسبة إلى أحد الصالحين وهو " يشكر ابن جديلة " ، وكان البدء فى إنشاء الجامع سنة 263 هـ / 876 م وكان الفراغ منه سنة 265 هـ / 878 م وهو ثالث جامع بمصر بعد جامع عمرو ابن العاص وجامع العسكر وأهم ما يميز هذا الجامع مئذنته التى بنيت على طراز مئذنة مسجد سامرا بالعراق والتى تعرف باسم الملوية .

وبعد وفاة أحمد بن طولون آل الحكم إلى ابنه خمارويه الذى تابع سياسة والده فى الدفاع عن مصر والشام وحمايتها من دسائس الخلافة العباسية وبخاصة الموفق طلحة أخي الخليفة فأعد خمارويه جيشا قاده بنفسه واستطاع هزيمة القوات العباسية عند دمشق وعقد صلحا اعترفت فيه الخلافة العباسية بولاية خمارويه على مصر والشام ووراثة الحكم لأبنائه من بعده ، كما دعم خمارويه علاقته بالخلافة العباسية فى بغداد حين زوج ابنته " قطر الندي " بالخليفة المعتضد .

غير أن خلفاء خمارويه لم يسيروا على نفس النهج الذى سار عليه أحمد ابن طولون وابنه خمارويه فسادت الفوضى مصر واشتد الطامعين فى الحكم وانتهي الأمر بأن أعدت الخلافة العباسية جيوشها لاسترداد مصر من رابع الولاة الطولونيين وهو " شيبان " وذلك فى سنة 292 هـ / 905 م حيث دخلت الجيوش العباسية القطائع وأزالت حكم الدولة الطولونية بعد أن حكمت مصر والشام ثمانية وثلاثين عاما

مصر في عصر الدولة الاخشيدية
___________

على الرغم من استيلاء العباسيون على مصر وإنهاء الحكم الطولوني بها إلا أن النفوذ العباسي لم يكن مستقرا بها مما شجع أحد القادة الأتراك فى الجيش العباسي فى مصر وهو " محمد بن طغج الإخشيد " إلى الانفراد بالسلطة وساعده على ذلك ما قدمه من خدمات فى الدفاع عن مصر ضد هجمات الدولة الفاطمية التى قامت فى ذلك الوقت فى تونس فتولي ولاية مصر سنة 323 هـ / 935 م .

وبعد سنتين من توليه الحكم استطاع الإخشيد ضم الشام إليه ليستطيع الوقوف ضد الروم البيزنطيين الذين خشوا قوة الدولة الجديدة فراسلوا الإخشيد كسبا للسلام ثم قام محمد بن طغج فى العام التالي ببسط نفوذه على مكة والمدينة ليكون له الإشراف على الحرمين الشريفين بعد وفاة الإخشيد تولى وزيره أبو المسك كافور الوصاية على ولديه الصغيرين وأثبت مقدرة على إدارة شئون البلاد والدفاع عنها ضد الطائفة المعروفة باسم " القرامطة " ونجح فى القضاء عليها وحافظ على وحدة مصر والشام وبلاد العرب وامتد سلطان الدولة الإخشيدية إلى جبال طوروس ، وبلغت إمارة أبو المسك كافور الإخشيدي على مصر ثلاثا وعشرين سنة حكم فيها باسم أبناء الإخشيد عدا سنتين انفرد فيهما بالحكم ، ولما توفي كافور خلفه " أبو الفوارس أحمد " حفيد الإخشيد وكان طفلا لم يبلغ الحادية عشرة من عمره ومن هنا عادت الفوضى إلى البلاد واشتدت هجمات الطامعين فى البلاد وبخاصة هجمات الفاطميين من بلاد المغرب الأمر الذى أدى إلي استيلاء الخليفة الفاطمي " المعز لدين الله " على مصر سنة 358 هـ وإنهاء حكم الدولة الإخشيدية

 

مصر في عصر الدولة الفاطمية
__________

قامت الدولة الفاطمية ببلاد المغرب سنة 297 هـ / 909 م وهى حركة شيعية تنتسب إلى السيدة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد بدأت هذه الحركة فى أول الأمر سرية خوفا من اضطهاد الخلفاء العباسيين لأشياعها .
الا أن الفاطميين استطاعوا الاستيلاء على بلاد المغرب وتولي أحد سلالة على بن أبي طالب رضي الله عنه ويدعي سعيد بن الحسين والذى لقب باسم " عبيد الله المهدي " الخلافة وبذلك صار فى ذلك الوقت بالعالم الإسلامي ثلاث خلافات هى الخلافة العباسية ببغداد ، والخلافة الأموية بقرطبة ، والخلافة الفاطمية بمدينة المهدية على ساحل تونس .

وفى سنة 358 هـ كان المعز لدين الله الفاطمي رابع الخلفاء الفاطميين ببلاد المغرب قد أعد جيوشه بقيادة جوهر الصقلي لفتح مصر ، حيث تمكن هذا القائد من فتحها وتأسيس عاصمة لمصر عرفت باسم " القاهرة " تمهيدا لانتقال السلطان الفاطمي إليها الذى حضر سنة 362 هـ / 972 م وأحضر معه آل بيته حتى رفاه أجداده وكان ذلك إيذانا بأن مصر أصبحت مقرا لدار الخلافة الشيعية ، كما قام ببناء جامعا تقام فيه شعائر المذهب الشيعي ، فوضع حجر الأساس لجامع الأزهر سنة 359 هـ / 970 م وانتهي من بنائه بعد سنتين تقريبا وأقيمت فيه الصلاة لأول مرة فى رمضان سنة 361 هـ .الجامع الازهروبعد استيلاء الفاطميون على حكم مصر أخذ المعز لدين الله الفاطمي وخلفاؤه على العمل على امتداد دولتهم شرقا حتى اشتملت على الشام وسائر الدول الإسلامية ، غير أن الدولة الفاطمية على الرغم من عظمتها واتساع مساحتها لم تستطع أن تجتذب إليها أهل السنة فابتعد عنها علماء السنة وفقهاؤها ، كما أنه بمرور الوقت أصبحت الأخطار تحيط بالدولة الفاطمية إذ بدأ من ناحية يزداد خطر الدولة السلجوقية التى استطاعت إنهاء سلطان الفاطميين من بلاد الشام ومن الناحية الأخرى ازداد خطر الصلبيين ببلاد الشام الذين استطاعوا القضاء نهائيا على نفوذ الفاطميين بهذه البلاد ، كما أنه من ناحية ثالثة انتهي حكم سلطان الفاطميين عن بلاد شمال أفريقيا لاستقلال الولاة الفاطميين بهذه البلاد وبذلك لم يبق للدولة الفاطمية سوي حكم مصر .
وازداد الموقف سوءا فى الدولة الفاطمية حين أخذ الصلبيين فى بيت المقدس فى الطمع فى مصر نفسها مع بقاء الخطر السلجوقي ماثلا فى قيام الدولة الزنكية نسبة إلى الأتابك عماد الدين زنكي ، فاستولي نور الدين زنكي بن عماد الدين زنكي على دمشق سنة 549 هـ / 1154 م وعمد إلى منع الصلبيين من امتداد نفوذهم إلى مصر ، ثم تطورت الأحداث باضطراب الموقف الداخلي فى مصر ذلك أن الوزير الفاطمي " ضرغام " سمح للصلبيين بالتدخل فى شئون الدولة الفاطمية بل ورضي بدفع مبلغ من المال ضمانا لمساعدتهم على منافسه فى منصب الوزارة وهو " شاور " والي الوجه القبلي الذى طلب بدوره مساعدة نور الدين زنكي فأصبحت مصر بذلك مطمعا لكل من جيوش الصلبيين وجيوش نور الدين زنكي ، فكان قائد الجيوش الصليبية الملك " أموري الأول " على حين قاد الجيوش النورية " شيركوه " الأيوبي وابن أخيه يوسف بن نجم الدين أيوب والذى عرف فيما بعد باسم الناصر صلاح الدين الأيوبي ، وتم النصر لجيوش نور الدين بقيادة شيركوه بعد مقتل ضرغام ثم التخلص من شاور ، ثم عين الخليفة الفاطمي العاضد القائد شيركوه فى الوزارة ثلاثة أشهر توفي بعدها سنة 1169 م فعين الخليفة العاضد ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب فى الوزارة بدلا منه ، واستطاع بذلك صلاح الدين الأيوبي العمل على إلغاء الدولة الفاطمية الشيعية ثم إنهاء الخلافة الفاطمية نهائيا من مصر وبذلك قامت الدولة الأيوبية

الدولـــــة الأيوبيـــــة
________
ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 533 هـ / 1138م بمدينة تكريت على نهر دجلة شمالي سامرا بالعراق واتصل والده نجم الدين أيوب وعمه شيركوه بالأتابك زنكي فنشأ صلاح الدين فى ظل البيت الزنكي وتعلم علوم أولاد الأمراء من حفظ القرآن وتعلم الأدب ودراسة الفقه واشترك مع عمه شيركوه فى الحملات التى قادها لمنع الصلبيين من الاستيلاء على مصر أواخر الدولة الفاطمية .


صلاح الدين الايوبي وبعد وفاة نور الدين زنكي سنة 570 هـ / 1174م استطاع صلاح الدين أن يعلن نفسه سلطانا على مصر فوجه عنايته بعمل العديد من الأعمال الداخلية بمصر فبني قلعته التى عرفت باسمه وأحاط القاهرة والفسطاط معا بسور واحد ، كما شجع على بناء مدارس لدراسة فقه السنة منها مدرسة الإمام الشافعي ، أما من الناحية الخارجية فقد اتجه صلاح الدين الأيوبي إلى حرب الصلبيين وذلك بأن اتبع سياسة الجهاد ضدهم حتي انتصر عليهم انتصارا حاسما فى معركة حطين سنة 583 هـ / 1187 م واستولي على الكثير من مدنهم حتي لم يبق لهم بالشام سوي بعض المدن مثل صور وعكا وإنطاكية وطرابلس .
قلعة صلاح الدينوبعد وفاة الناصر صلاح الدين الأيوبي خلفه اثنان من أبنائه هما العزيز بن صلاح الدين الذى تولي الحكم من سنة 589 هـ إلى سنة 595 هـ 1193 م / 1198 م ثم ابنه المنصور بن العزيز 595 - 596 هـ / 1198 -1200م ، ثم تولي الحكم بعدهم السلطان العادل أخو صلاح الدين الأيوبي 596 - 615 هـ / 1200 - 1218م وهكذا انتقل الحكم من أبناء صلاح الدين إلى أخيه العادل وأبنائه ، وقد حدث اختلاف كبير بين أبناء البيت الأيوبي فى مصر والشام وتحاربوا فيما بينهم فاستعان الأيوبيين سواء فى مصر أو الشام بأجناد من المماليك المجلوبة من مختلف البلاد المجاورة وازداد نفوذ هؤلاء المماليك بسبب استمرار الحروب بين أبناء البيت الأيوبي وكان السلطان فى ذلك الوقت هو الصالح بن الكامل نجم الدين أيوب ، إلا أن السلطان نجم الدين الأيوبي توفي سنة 647 هـ / 1249 م وهو يحارب الصلبيين فاضطرت زوجته شجر الدر لإخفاء موته حتي انتصر المسلمون على الصلبيين فى موقعة المنصورة ثم فارسكور سنة 647 هـ / 1250م وتقلدت شجر الدر الحكم بعد أن تخلصت من توران شاه ابن الصالح نجم الدين الأيوبي سنة 648 هـ / 1250م ، وهكذا انتهي حكم الدولة الأيوبية من مصر بعد أن حكموها إحدى وثمانين سنة ليبدأ بعد ذلك عصر المماليك .

دولـــــة المماليك البحـــرية
_________
ترتب على وفاة توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب تطور خطير فى تاريخ مصر والشام وذلك بأن بوفاته سقطت الدولة الأيوبية وقام سلاطين دولة المماليك التى بدأ حكمها بتولي شجر الدر الحكم التى تولت الحكم ثمانين يوما وقد وصف المقريزى حكمها بقوله " أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك " .

كان أول ما وجهته شجر الدر بعد توليها الحكم هو وجود الفرنسيون فى مصر بمدينة دمياط على الرغم من أن الملك " لويس التاسع " كان أسيرا فى المنصورة إلا أن هذا لا يزال يشكل خطرا لأن دمياط فى قبضة الفرنسيين وتمثل قاعدة بحرية لهم يمكن للغرب استغلالها فى الهجوم على مصر فأرسلت شجر الدر الأمير حسام الدين لمفاوضة الفرنسيين وبعد مفاوضات تم التوصل إلى إطلاق سراح الملك لويس التاسع مقابل فدية على أن يجلو الفرنسيين من مصر وهكذا تم جلاء الفرنسيين عن مصر

أما العقبة الثانية التى واجهت شجر الدر فهي رفض العالم الإسلامي لتوليها الحكم لكونها امرأة فتزوجت أحد المماليك وهو عز الدين أيبك التركماني ، وهكذا بدأ عصر المماليك والذى أجمع المؤرخون أنه ينقسم إلى قسمين الأول وهو البحري أو الممالك البحرية والثاني وهو البرجي أو المماليك الجراكسة .

عرف القسم الأول من عصر المماليك باسم المماليك البحرية وذلك مرجعه إلى، وكان معظم هؤلاء المماليك من الأتراك المجلوبين من بلاد القفجاق شمالي البحر الأسود ومن بلاد القوقاز قرب بحر قزوين ، وقد امتاز هؤلاء المماليك بالشجاعة النادرة والصفات الحسنة وقد تمكن المماليك البحرية من حكم مصر نحو قرن وثلث استطاعوا خلالها مواجهة العديد من المشاكل التى واجهت المسلمين وخاصة المشاكل الخارجية التى تمثلت فى مواجهة أكبر خطرين هما الصلبيين والتتار ، وقد استطاع المماليك البحرية بقيادة سيف الدين قطز ومساعدة ركن الدين بيبرس الانتصار على التتار فى موقعة هامة وهى موقعة عين جالوت التى دارت بين المسلمين والتتار سنة 658 هـ / 1260م ، كما أن بيبرس استطاع مواجهة الصلبيين وحاربهم حربا لا هوادة فيها واستطاع انتزاع مدنهم وقلاعهم بالشام كما حارب أيضا تتار فارس ودفع خطرهم عن بلاد الشام .
وبعد وفاة بيبرس استولي على الحكم المنصور قلاوون الذى امتاز عصره بالازدهار والقوة والاستقرار والنهضة فى الداخل والسلام والأمن فى الخارج وبلغت مصر مبلغا عظيما من القوة والثروة فى عصر المماليك بنوا خلالها العديد من الأثار والمباني العظيمة وخاصة بعد أن استمر الحكم له ولأولاده ولذريتهم من بعده ما يقرب من قرن من الزمان (678 هـ - 874 هـ / 1279 - 1382 م ) ، وقد استطاع المسلمون فى عصر الأشرف خليل بن قلاوون ( 689 - 693 هـ / 1290 - 1293 م ) الذى يعد بمثابة أخر بطل للحروب الصليبية بأرض الشام وذلك لتمكنه من الاستيلاء على عكا من الصلبيين وهو الأمر الذى كان ذلك بمثابة الضربة الكبري القاضية لتواجد الصلبيين بالشام حيث استطاع بعد ذلك المسلمون من الاستيلاء على ما تبقي فى أيدي الصلبيين من مراكز قليلة مثل صور وصيدا وغيرهما ، ثم تولي بعد الأشرف خليل الذى كان أخر سلطان ببيت قلاوون الناصر محمد بن قلاوون ثم خلفه عدة سلاطين كان أخرهم الصالح حاجي بن شعبان 783 - 787 هـ / 1381 - 1385 م ثم انتهي عصر المماليك البحرية ليبدأ عصر المماليك الشراكسة أو المماليك البرجية .

 

المماليك الجراكســة
_________

رأى السلطان المنصور قلاوون أن تكون له فرقة جديدة من جنس جديد غير المماليك الموجودين بعصره يعتمد عليهما ضد منافسيه من كبار الأمراء وتكون سندا له و لأولاده من بعده فأعرض عن شراء المماليك الأتراك والتتار والتركمان وأقبل على شراء المماليك الجراكسة الذين ينتمون إلى بلاد الكرج ( جورجيا ) وهى البلاد الواقعة بين بحر قزوين والبحر الأسود .

وبعد وفاة قلاوون حرص أبنائه وأحفاده على اتباع سياسته من الإكثار من هؤلاء المماليك ، وقد عرف المماليك الجراكسة أيضا باسم المماليك البرجية وذلك أن المنصور قلاوون فرض فى أول الأمر عليهم أن يمكثوا بأبراج القلعة حتي لا يختلطوا بغيرهم من طوائف المماليك وبالأهالي ، وبمرور الزمن سمح لهم الأشرف خليل بالنزول من القلعة بالنهار على أن يعودوا إليها قبل المغرب للمبيت وبذلك استطاع المماليك البرجية الوقوف على أحوال البلاد الداخلية وهكذا استطاع المماليك البرجية بمرور الزمن أن يكونوا منافسا قويا للمماليك البحرية ، وقد بدأ عصر المماليك البرجية بالأمير برقوق الذى اشتراه الأمير " يلبغا الخاصكي " ثم أعتقه فصار من جملة اليلبغاوية وقد ظل يرتقي بفضل طموحه وذكائه إلى أن وصل إلى تقدمة ألف ثم ولي منصب أتابك العسكر سنة 780 هـ / 1378م ثم أعلن نفسه سلطانا سنة 787 هـ / 1385م .

 

وقد ظل عصر المماليك الجراكسة أكثر من مائة وأربعة وثلاثين سنة ( 784 - 923 هـ / 1382 - 1517 م ) تعاقب على عرش السلطنة ثلاثة وعشرون سلطان منهم تسعة حكموا مائة وثلاثة سنوات ارتبط بهم تاريخ دولة المماليك الجراكسة وهم الظاهر برقوق ، وفرج بن برقوق ، والمؤيد شيخ ، الأشرف برسباي ، الظاهر جقمق ، والأشرف إينال ، وخشقدم ، الأشرف قايتباى ، وقانصوه الغوري ، بينما حكم أربعة عشر سلطانا لمدة تسع سنوات فقط ، وقد امتاز عصر السلاطين العظام التسع السابقين بمهارتهم الحربية كما امتاز عصرهم بحبهم للأدب ومجالس العلم كما امتاز هذا العصر بإقامة العديد من الأثار والمؤسسات الخيرية من مدارس ومساجد وأسبلة وبيمارستانات .

إلا أنه لم تلبث أن ساءت أحوال البلاد فى أواخر عصر السلطان قايتباي بسبب كثرة الأعباء المالية وانتشار مرض الطاعون بدولة المماليك كلها سنة 897 هـ / 1492م ووفاة السلطان قايتباي سنة 901 هـ / 1496 م ، ثم بدأ أمراء المماليك التنازع على الحكم وقتل بعضهم البعض إلى أن عين الأشرف قانصوه الغوري 906 هـ / 1501م فى الحكم فاستطاع أن يعمل بسرعة على إعادة الأمن والاستقرار إلى الدولة ثم اتجه إلى إصلاح الأزمة المالية التى مرت بالبلاد وقام بتشييد العديد من المباني والوكالات والربوع كما عني بتحصين الإسكندرية ورشيد .

ثم حدث بعد ذلك أن واجهت مصر أكبر عقبتين لها الأول وهو اكتشاف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح سنة 892 هـ / 1487م وأعقب ذلك تمكن " فاسكو دي جاما " من الوصول إلى الهند عن طريق الطواف حول أفريقيا سنة 904 هـ / 1498 م وبذلك حول طريق التجارة العالمي من البحر الأحمر ومصر فلم تعد مصر محل الوساطة التجارية بين الشرق والغرب وبذلك فقدت سلطنة المماليك المورد الرئيسي لثروتها ومن ثم بدأت فى الذبول السريع ثم ازداد الأمر سوءا بظهور الخطر الثاني الذى واجه سلطنة المماليك وهو اشتداد خطر العثمانيين الذين استطاعوا محاربة المماليك وقتل الأشرف قانصوه الغورى فى معركة مرج دابق بعد خيانة الأمير خاير بك له ، ثم اختير طومان باى سلطانا سنة 922 هـ / 1516م وكان أخر سلاطين المماليك فى مصر حيث استطاع العثمانيون بقيادة سليم الأول الدخول إلى مصر والاستيلاء عليها وبذلك بدأ حكم الدولة العثمانية سنة 1517م .

 

الدولـــة العثمانية
______

ينسب العثمانيون إلى عثمان خان بن ارطغول بن سليمان شاه بن قيا ألب الذى بفضله تكونت الدولة العثمانية ، وينتمي العثمانيون إلى عشيرة قابي إحدي قبائل الغز التى اضطرت إلى الهجرة عندما أغار جنكيز خان سنة 624 هـ / 1226 م على بلاد أسيا الصغرى فاضطر سليمان شاه إلى التراجع إلى شمالي غربي أرمينية .

 

وعندما هاجم السلاجقة خراسان وخوارزم عاد سليمان شاه إلى أسيا الصغري حيث توفي سنة 629 هـ / 1231م واستطاع ابنه ارطغول أن يلتحق بخدمة السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو الذى أقطعه المستنقعات الواقعة على حدود الدولة البيزنطية .

 

وعندما توفي أرطغول سنة 680 هـ تولي عثمان خان ابنه قيادة شعبه فاستطاع فى سنة 1228 م فتح مدينة ملانجنون والتى سماها " قره جه حصار " ، ثم توالت الفتوحات العثمانية بعد ذلك بأن استطاع أورخان ابن عثمان الاستيلاء على بروسه ثم أزميد ثم مدينة أزنيق سنة 1330م ، ولقد ارتبطت الفتوحات العثمانية فى البداية بالاتجاه نحو أوربا وذلك عندما عبر سليمان بن أورخان مضيق الدردنيل سنة 1356 م ونزل شبه جزيرة جاليوبولي مؤسسا بذلك أول موطئ للعثمانيين بأوربا ، وظل هذا الاتجاه ثابتا نحو ما يزيد على قرنين من الزمان على الرغم من الخطر الذى داهم العثمانيين من قبل تيمور لنك والذى نتج عنه غزو الدولة العثمانية وهزيمة السلطان بايزيد الأول ودمار العاصمة بروسه فى موقعة أنقرة سنة 1402م مما نتج عنه تشتيت الدولة العثمانية إلى حين ، وعندما تولي السلطان محمد جلبي الحكم استطاع جمع الدولة العثمانية مرة أخري .

وعلى الرغم من توجه العثمانيون نحو غزو أوربا إلا أن الدول الأوربية الكبري فى ذلك الوقت ممثلة فى فرنسا وإنجلترا لم تستطع وقف الغزو العثماني لأوربا عام 1356م وذلك بسبب تصارع القوي الأوربية آنذاك مع بعضها ففرنسا أكبر هذه القوي كانت منهكة فى حربها مع إنجلترا فى حرب المائة عام ( 1340 - 1433 م ) وكما ساعد العثمانيون هذا الانقسام فى القوي السياسية والعسكرية الأوربية ساعدهم أيضا انقسامهم دينيا بسبب الصراع المذهبي بين كل من الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية ، وبذلك استطاع محمد الفاتح حصار القسطنطينية عاصمة بيزنطة عام 1453 م والاستيلاء عليها وتحويل اسمها إلى استنبول وبذلك يكون قد وضع نهاية للإمبراطورية البيزنطية وحقق حلم المسلمين فى الاستيلاء على القسطنطينية .

ثم بدأ العثمانيون فى التوجه بأبصارهم منذ مطلع القرن 10 هـ / 16 م صوب القوي الإسلامية فى الشرق ولاسيما المجاورة لهم ممثلة فى دولة الصفويين فى فارس والدولة المملوكية فى مصر وكان هذا التوجه سببه ما راود العثمانيون من أحلام السيادة على العالم الإسلامي ، فلما تولي السلطان سليم الأول مقاليد الحكم سنة 1513 م توجه أولا إلى حرب الصفويين الشيعة فى إيران وخاصة أنهم كانوا على مسرح الأحداث يظهرون كقوة مناوئة للعثمانيين السنة ، فأعد السلطان سليم الأول جيشا سنة 910 هـ / 1514م انتصر به على الصفويين وهزم الشاه إسماعيل الصفوي ، واستطاع السلطان سليم الأول الاستيلاء على الجزيرة والموصل وديار بكر ، وبذلك اقترب العثمانيون من أطراف دولة المماليك فى شمال الشام والعراق وعلى الرغم من أن العلاقات بين العثمانيين والمماليك بدأت حسنة ولاسيما أن الدولة العثمانية قد وجهت جهودها فى بداية توسعاتها نحو الغرب وأوروبا الأمر الذى قوبل بالارتياح الكبير من جانب المماليك والقوي الإسلامية فى الشرق الأدني وخاصة أن السلطان بايزيد الثاني وقع سنة 1491م اتفاقية سلام مع السلطان قايتباي ، إلا أن السلطان سليم الأول سرعان ما لبث أن شرع فى تنفيذ خطته التوسعية فى الشرق وخاصة بعد انتصاره على الصفويين فبدأ يعد جيشه للقضاء على المماليك فى مصر والشام ، واستطاع السلطان سليم الأول الانتصار على جيوش المملوكية فى معركة مرج دابق بالشام فى سنة 1516م وقتل السلطان الغوري واستولي سليم الأول على حلب وخضعت له الشام ثم بدأ سليم الأول فى الزحف على مصر ، حيث استطاع أن يستولي على مصر سنة 1517م وشنق طومان باي على باب زويلة وبذلك انتهت سلطنة المماليك نهائيا بمصر والشام وعين خاير بك واليا على مصر من قبل السلطان سليم الأول .

كانت النتيجة المباشرة لسقوط دولة المماليك أن تحولت مصر من دولة كبري امتد نفوذها من جبال طوروس شمالا إلى غربي أسوان جنوبا ومن حدود برقة غربا إلى الفرات شرقا ويخضع لسيادتها أقاليم برقة والحجاز واليمن والنوبة وقبرص إلى مجرد ولاية عثمانية لا تختلف عن غيرها من الولايات العثمانية ففقدت بذلك مصر شخصيتها المستقلة التى كانت تميزها على مر العصور ، حيث كانت لمصر زمن الدولة المملوكية مركز الصدارة فى العالم الإسلامي وكان للسلاطين المماليك الزعامة لتوليهم خدمة الحرمين الشريفين وكون القاهرة مقرا لخلفية المسلمين ،كما أدى سقوط دولة المماليك أن انتقلت زعامة العالم الدينية والسياسية إلى الدولة العثمانية فأصبح الخطباء يدعون للسلطان سليم الأول باعتباره ملك البرين وخاقان البحرين وقاهر الجيشين - الصفوي والمملوكي - وخادم الحرمين ، كما أدي سقوط المماليك أيضا إلى تمكن العثمانيون من السيطرة على الحجاز وبسط سيادتهم على سائر شبه الجزيرة العربية واليمن وغيرها من البلاد العربية والإسلامية ليستقر بها الحكم العثماني قرونا طويلة متوالية .

بعد استيلاء العثمانيون على مصر بدأ السلطان سليم الأول فى وضع نظام جديد للحكم وهو النظام الذى ظلت مصر تحكم به نحو ثلاثة قرون متعاقبة من سنة 1517 م إلى سنة 1798م وهذا الحكم تلخص فى وجود سلطتين تتنازعان الحكم وتراقب كلا منهما الأخرى الأولي سلطة نائب السلطان أو الوالي العثماني وهو نائب السلطان فى حكم البلاد ويلقب بالباشا ومقره القلعة وكانت مدة ولايته سنة تنتهي بنهايتها ما لم يصدر فرمان بتجديدها سنة أخرى ، السلطة الثانية وهي سلطة رؤساء الجند وهم قواد الفرق التي تركها سليم الأول بمصر بعد مغادرته لها وكانت تتألف من نحو اثني عشر ألفا منتظمين فى ست فرق تسمي كل فرقة " وجاق " أشهرهم وجاق الإنكشارية والعزب وكان مقرهم بقلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة ، كما تم وضع نواة لسلطة ثالثة وهى سلطة البكوات المماليك والذين تم تعيينهم فى بأقاليم مصر - كانت فى ذلك الوقت يطلق عليها مديريات - .


إلا أن النظام الذى وضعه السلطان سليم الأول لم يستمر هكذا طويلا فبدأ التنازع والحروب وانتهز المماليك هذه الفرصة وعملوا على الانفراد بالحكومة وبمرور الوقت انتهي هذا الصراع إلى تغلب سلطة المماليك البكوات فى النصف من القرن السابع عشر وساعدهم فى ذلك ما صارت إليه السلطنة العثمانية من الضعف فى أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر بسبب حروبها المتواصلة واختلال الشئون الداخلية وفساد الحكم فيها كما زاد من نفوذ البكوات المماليك كثرة تغيير الولاة العثمانيين وعزلهم فضعف شأنهم وتراجع نفوذهم فى حين أن المماليك احتفظوا بعصبيتهم بشرائهم العديد من الجند والاتباع واستمالوا أفراد الحامية العسكرية أو الوجاقات الذين استوطنوا مصر استقروا بها ، وهكذا أصبحت مصر تحت وطأة الحكم العثماني مسرحا للفتن بين السلطات الثلاث التى تنازعت الحكم فيها وزال عنها استقلالها فحال ذلك دون قيام حكومة ثابتة مستقرة

 

الحملــــة الفرنسية على مصر
________

وفى ذلك الوقت كانت مصر مطمعا للدول الأوربية وبخاصة فرنسا وإنجلترا التى كانتا تتنافسان على الفتح والاستعمار منذ القرن السابع عشر الميلادي واستمر خلال القرن الثامن عشر الميلادي ثم أخذ طورا جديدا بعد سقوط الملكية فى فرنسا وقيام الجمهورية سنة 1792م وظهور نابليون بونابرت على مسرح الأحداث سنة 1793م .



لوحة للقائد الفرنسي نابليون بونابرت الذي أشتهر بنظرته الحاسدة


وقد اتجهت أطماع نابليون إلى فتح مصر عقب انتصاراته فى حروب إيطاليا فبدأ يفكر فى تمهيد الطريق لإنفاذ حملة كبيرة فى البحر الأبيض المتوسط واحتلال مصر ليتخذها قاعدة عسكرية يصل منها إلى الأملاك الإنجليزية فى الهند وهكذا بدأ نابليون بونابرت فى تنفيذ أحلامه فى احتلال مصر فتحركت أولي جيوشه من مياه مالطة فى يوم 19 يونيو سنة 1798 م ووصلت جنود الحملة غرب مدينة الإسكندرية يوم 2 يوليو سنة 1798 م وزحفوا على المدينة واحتلوها فى ذلك اليوم وبعد ذلك أخذ نابليون يزحف على القاهرة بطريق دمنهور حيث استطاع الفرنسيون احتلال مدينة رشيد فى 6 يوليو ووصلوا إلى الرحمانية وهي قرية على النيل وفى تلك الأثناء كان المماليك يعدون جيشا لمقاومة الجيوش الفرنسية بقيادة مراد بك حيث التقي الجيشان بالقرب من شبراخيت يوم 13 يوليو سنة 1798 م إلا أن الجيوش المملوكية هزمت واضطرت إلى التقهقر فرجع مراد بك إلى القاهرة والتقي كلا من الجيش الفرنسي والجيش المملوكي مرة أخرى فى موقعة إمبابة أو موقعة الأهرام حيث هزم جيش مراد بك مرة أخرى فى هذه المعركة الفاصلة فى 21 يوليو سنة 1798م وفر مراد بك إلى الجيزة أما إبراهيم بك الذى كان مرابطا بالبر الشرقي من النيل لما رأى الهزيمة حلت بجيوش مراد بك أخذ من تبعه من مماليك ومصريين والوالي التركي وانسحبوا جميعا قاصدين بلبيس وخلت القاهرة من قوة الدفاع حيث استطاع نابليون بونابرت احتلالها ودخل القاهرة فى 24 يوليو سنة 1798 م مصحوبا بضباطه وأركان حربه ونزل بقصر محمد بك الألفي بالأزبكية

وعلى الرغم من انتصار الفرنسيين على المماليك وسيطرتهم على مصر إلا أن الاحتلال الفرنسي لمصر لم يدم أكثر من ثلاث سنوات فقط وذلك لعدة عوامل أولها مقاومة المصريون الشديدة للإحتلال الفرنسي والتى امتدت بكل مدن مصر وامتازت بأنها كانت على شكل ثورات تمتد بكل الأقاليم المصرية كما أن الجيش الفرنسي بدأ فى الضعف وخاصة بعد انتشار وباء الطاعون بمصر وخاصة بالقاهرة والصعيد سنة 1801 م ، كما أن كلا من إنجلترا وتركيا قررتا الإطاحة بالجيش الفرنسي بمصر ، فقد تحرك الجيش الإنجليزي من جبل طارق فى أوائل نوفمبر سنة 1800م وأقلعت سفنه إلى شواطئ الأناضول فى أواخر ديسمبر وأوائل يناير حيث اتفقت كلا من إنجلترا وتركيا على خطة مشتركة فى القتال فأعدت تركيا جيشين الأول بقيادة الصدر الأعظم يوسف باشا ويزحف إلى مصر عن طريق برزخ السويس والثاني بقيادة حسين قبطان باشا ويقصد شواطئ مصر الشمالية ، فوصلت قوات الجيش الإنجليزي البر الغربي للنيل وبلغ إمبابة بينما واصل الجيش العثماني تقدمه من الشرق ووصل إلى البر الشرقي للنيل حيث وضع كلا من الجيشين خطة مشتركة للزحف على القاهرة ، وفى تلك الأثناء أحس الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال " بليار " خطورة موقفه وخاصة أن الجيش الفرنسي كان فى غاية من الضعف كما أن سكان القاهرة كانوا مستعدين للثورة عليه والانضمام إلى الجيوش الإنجليزية والتركية فرأي أن يعقد مجلسا حربيا من قواد الجيش الفرنسي حيث قرر المجلس التسليم وتجنب القتال وفتح باب المفاوضات للجلاء فوافق الفرنسيون على الجلاء عن مصر ووقعت الاتفاقية فى 27 يونيو سنة 1801 م وكان من شروطها جلاء الجيش الفرنسي عن مصر بأسلحتهم وأمتعتهم ومدافعهم وغيرها ويبحرون إلى فرنسا على نفقة الحلفاء وأن يتم الجلاء فى أقرب وقت ممكن فى مدة لا تزيد عن خمسين يوما وبذلك رحلت الحملة الفرنسية على مصر فى أوائل شهر أغسطس سنة 1801م إلى فرنسا وبذلك انتهي الاحتلال الفرنسي على مصر نهائيا بعد احتلال دام ثلاث سنوات وشهرين .

بعد انتهاء الحملة الفرنسية على مصر تنازع السلطة فى البلاد ثلاث قوي مختلفة المصالح واتحدت لوقت قصير ضد الاحتلال الفرنسي وهذه القوي هى الأتراك والإنجليز والمماليك ، فتركيا تطلعت إلى بسط حكمها المطلق على مصر تجعل منها ولاية تحكمها كما حكمتها السلطنة العثمانية أما إنجلترا فرأت أن تبسط نفوذها فى وادى النيل وتحتل بعض المواقع الهامة فى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر لتضمن لنفسها السيادة فى البحار ، أما المماليك فكانوا يطمعون بعد انتهاء الحملة الفرنسية فى استعادة حكمهم فى مصر وحجتهم أنهم الحكام الأقدمون فبدءوا فى استمالة الإنجليز يطلبون حمايتهم ، إلا أنه فى تلك الأثناء ظهرت قوة رابعة على مسرح النضال السياسي المصري أخذت تنمو وهى قوة الشعب المصري ممثلا فى قادة الشعب وزعماؤه الذين قرروا التخلص من الاحتلال الأجنبي وفى الأحداث السياسية بدأ ظهور محمد على باشا ليغير من مسار مصر السياسي والتاريخي .

 

عصر محمد على باشا
________

ولد محمد على باشا بمدينة قولة إحدي مدن اليونان سنة 1769 م وكان أبوه إبراهيم أغا رئيس الحرس المختص بحراسة الطرق ببلده وكان له سبعة عشر ولدا لم يعش منهم غير محمد على ، وقد مات أبوه وعاش يتيما لا يتجاوز الرابعة عشر من عمره فكفله عمه طوسون الذى توفي فكفله صديق والد حاكم المدينة " الشوربجي ". فلما بلغ محمد أشده انتظم فى سلك الجهادية وسرعان ما ظهرت شجاعته ثم تزوج من إحدي قريبات متصرف قولة وكانت واسعة الثراء وأنجب منها إبراهيم وطوسون وإسماعيل وتفرغ للتجارة وخاصة تجارة الدخان إلا أنه سرعان ما عاد للحياة العسكرية وذلك عندما أغار نابليون بونابرت على مصر وشرع الباب العالي أو تركيا فى تعبئة جيوشها انضم محمد على إلى كتيبة مدينة قولة التى ركبت السفينة التركية التى رست فى ساحل أبو قير بالإسكندرية بقيادة حسين قبطان باشا فى شهر مارس سنة 1801م ، وهكذا جاء محمد على إلى مصر واشترك فى المعارك الأخيرة التى دارت بين الإنجليز والأتراك من جانب والفرنسيين من جانب أخر وظهر اسمه فى هجوم الجيش التركي على الرحمانية وساعده الحظ بانسحاب الفرنسيين من قلعة الرحمانية فاحتلها محمد على دون عناء . محمد علي باني مصر الحديثة بالفعل وليس بالقولوقد ظل محمد على بمصر وشهد انتهاء الحملة الفرنسية على مصر وفى أثناء ذلك كان قد رقي إلى مرتبة كبار الضباط فنال رتبة بكباشي قبل جلاء الفرنسيين ثم رقاه خسرو باشا إلى رتبة " سر جشمه " أو لواء ، وكان فى ذلك الوقت الصراع دائرا فى مصر على السلطة وخاصة أن إنجلترا قامت فى 27 مارس سنة 1802م بعقد صلح عرف بصلح أميان AMIENS بين فرنسا وإنجلترا وهولندا وإسبانيا وكان من شروط هذا الصلح جلاء الإنجليز عن مصر ، كما أن الحرب بين المماليك والأتراك قد اشتدت ، فبدأ محمد على أن يدبر لنفسه خطة لم يسبقه إليها أحد وهى التودد إلى الشعب المصري واستمالة زعماؤه للوصول إلى قمة السلطة وخاصة بعد ثورة الشعب ضد المماليك فى مارس سنة 1804 م من كثرة وقوع المظالم وزيادة الضرائب على الشعب المصري ، كذلك كثرة اعتداء المماليك والجنود الألبانيين على الأهالي .

فبدأ محمد على فى هذه الأثناء فى استمالة الشعب المصري له واختلط بالعامة وانضم إلى المشايخ والعلماء ، وفى سنة 1805م حدثت ثورة بالقاهرة ضد الأتراك بدأت عندما اعتدي الجنود الدلاة - جنود من عناصر السلطنة العثمانية - على أهالي مصر القديمة وأخرجوهم من بيوتهم ونهبوا مساكنهم فاجتمع العلماء وذهبوا إلى الوالي خورشيد باشا وخاطبوه فى وضع حد لفظائع الجنود الدلاة إلا أن الوالي لم يستطع عمل شيئا فبدأت الثورة تأخذ طريقها ضد الوالي التركي وجنوده ، وهنا اغتنم محمد على تطور أحداث هذه الحركة ليؤيدها ويناصر الشعب كما فعل فى ثورة الشعب ضد المماليك ، وفى تلك الأثناء حاول خورشيد باشا إبعاد محمد على عن مصر حيث نجح فى جعل الباب العالي يصدر فرمانا سلطاني بتقليد محمد على ولاية جدة ، إلا أن الشعب المصري وزعمائه وعلمائه كان قد أصدر حكمه بعزل الوالي العثماني خورشيد باشا وتعيين محمد على واليا على مصر بدلا منه فى 13 مايو سنة 1805م .

وهكذا تولي محمد على باشا حكم مصر نزولا على رغبة أبنائها وهو ما يعد انقلابا عظيما فى نظام الحكم لتبدأ مصر مرحلة جديدة من النهضة أثرت على تاريخها السياسي والحربي والاقتصادي والاجتماعي فما أن بدأ محمد على باشا حكم مصر إلا وكان قد عزم بل وصمم على أن يجعل من مصر دولة لها سيادة بعد غياب قرون طويلة لهذه السيادة وتسير على نفس خطي التقدم والرقي الذى تشهده دول العالم الكبري فى ذلك الوقت وبخاصة إنجلترا وفرنسا بعد أن ظلت مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية لمدة ثلاثة قرون متعاقبة تتنازعها قوي عديدة .

بعد أن استتب لمحمد على باشا الحكم قضي على أعدائه من المماليك فى مذبحة المماليك الشهيرة سنة 1811م كما قام بإلغاء فرق الجنود الإنكشارية أو فرق الجنود العثمانية وبدأ فى إرساء دعائم جديدة كانت بدايتها أو نواتها الأولي هى النهوض بمصر فى كافة النواحي فبدأ أولا بالنهوض بالجيش وتنظيمه حيث قام الكولونيل سيف الذى عرف فيما بعد باسم الجنرال سليمان باشا الفرنساوي بتدريب أو تكوين فرقة جديدة من الجيش عرفت فى الوثائق الرسمية وكتب المؤرخين باسم " اليكيجريه " أو الجيش الجديد وكان قوام هذه الفرقة فى البداية من صغار المماليك وبعضا من الجنود الإنكشارية العثمانية والألبان إلا أن هذه البداية فشلت فشلا ذريعا بل إن الألبان ثاروا ضد محمد على باشا وقاموا بتحريض الشعب المصري على رفض هذه البدعة ، إلا أن هذا لم يكن ليثني محمد على باشا عن المضي فى التقدم بالجيش فقام بمحاولة ثانية وهي تجنيد فرقة من الجند السودان إلا أن هذه المحاولة فشلت أيضا لتفشي الأمراض بين الجند ومن هنا بدأ محمد على فى التفكير فى تشكيل جيش مصري جنوده من المصريين وكان هدفه من ذلك إنشاء جيش من المصريين يحقق أغراضه التوسعية وللدفاع عن بلادهم وإعلاءها ، وبذلك استطاع محمد على تثبيت أركان حكمه بالنهوض بالجيش المصري فأنشئت أول مدرسة حربية للمشاه سنة 1820 م وكان يتم تدريبهم بميدان الرميلة أو قره ميدان - ميدان القلعة حاليا - حيث كان يتولاهم محمد على بنظره أثناء التدريب ثم نقلت هذه المدرسة إلى أسوان فى سنة 1821 م ثم ازدادت المدارس الحربية وفتحت مدارس بكل من فرشوط والنخيلة وجرجا ، وفى سنة 1823م كان التشكيل الأول للجيش المصري وكان مكونا من ست كتائب ثم ارتفع عدد هذه الكتائب فيما بعد وأصبح الجيش المصري يواكب أحدث النظم العسكرية فى العالم فى ذلك الوقت .

وكما اهتم محمد على باشا بتنظيم الجيش المصري على أحدث النظم الحربية اهتم بالنهوض بمصر فى كافة المجالات وبخاصة فى العمارة التى تميزت بطرز جديدة وافدة على مصر كان أغلبها أوربي نظرا لاستقدام محمد للعديد من المهندسين والعمال الأجانب لبناء العديد من العمائر سواء الدينية أو المدنية أو الحربية وكان هؤلاء المهندسين أغلبهم من تركيا ومن أوربا فبدأ فى الظهور أنماط تركية وألبانية وأوربية نتيجة لتوافد هذه العناصر على مصر فى القرن التاسع عشر الميلادي على العمارة والفنون فعرف هذا الطراز فى كتب المؤرخين باسم " الطراز الرومي " .

كما تميز عصر محمد على باشا بالنهضة فى التنظيم والهندسة فى العمارة ممثلة فى أنه أصبح يوجد لائحة للتنظيم حيث فتحت الحارات والدروب والسكك وسهل المرور بها أصبح الناس بمصر يتبعون فى مبانيهم الطرز المعمارية الحديثة كما انتدب محمد على باشا المهندسين وملاحظي المباني ليطوفوا بالمدن للكشف عن المساكن والدور القديمة ويأمروا أصحابها بهدمها وتعميرها فإن عجزوا أمورا بإخلائها ولتقوم الحكومة بترميمها على نفقتها الخاصة لتكون بعد ذلك من أملاك الدولة ، أيضا قام محمد على باشا بوضع أولي لبنات التعليم فى مصر على الرغم مما لاقاه من صعوبات بالغة تمثلت فى المعارضة الشديدة من الأتراك من ناحية ومن التخلف والجهل الذى كان يسود مصر من ناحية أخري نظرا لكثرة الفتن والخلافات والصراعات بين المماليك والأتراك ومن هنا بدأ فى نشر المدارس المختلفة لتعليم أبناء الشعب المصرى ومنها المدارس الحربية مثل مدرسة السواري أو الفرسان بالجيزة مدرسة المدفعية بطره مجمع مدارس الخانكة ، مدارس الموسيقي العسكرية وغيرها من المدارس ، أيضا كان هناك العديد من المدارس الأخري مثل مدرسة الألسن ومدرسة الولادة ومدرسة الطب أو مدرسة القصر العيني ومدرسة الطب البيطري ومدرسة الزراعة وغيرهم من المدارس .

وكما اهتم محمد على باشا بالتعليم بمصر بمختلف أنواعه اهتم أيضا بالصناعة التى تطورت تطورا كبيرا فى عهده والتى أصبحت ثاني عماد للدولة بعد التعليم بكافة أشكالها وبخاصة الحربية لمواكبة الأنظمة التى كانت موجودة بأوربا وحتي لا تعتمد مصر على جلب كافة احتياجاتها من الخارج الأمر الذى سيجعلها تحت رحمة الدول الكبرى من ناحية واستنزاف موارد الدولة من ناحية أخري إلى جانب أن معظم الخامات المستخدمة فى الصناعة كانت موجودة فعلا بمصر فضلا عن توفر الثروة البشرية ، وهكذا تم إنشاء العديد من المصانع وكان أول مصنع حكومي بمصر هو مصنع الخرنفش للنسيج وكان ذلك فى سنة 1231 هـ / 1816 م ثم بدأت تتوالي المصانع سواء الحربية أو غيرها الأمر الذى أدي بمحمد على إلى اتباع سياسة خاصة للنهوض بهذه المصانع بدأها أولا باستخدام الخبراء والصناع المهرة من الدول الأوربية لتخريج كوادر مصرية من رؤساء وعمال وصناع وفنيين وإحلالهم محل الأجانب بالتدريج .

وقد انقسمت الصناعات الجديدة التى أدخلها محمد على باشا إلى مصر إلى ثلاثة أقسام الأول وهو الصناعات التجهيزية وتمثلت فى صناعة آلات حلج وكبس القطن وفى مضارب الأرز ومصانع تجهيزه ، وتجهيز النيلة للصباغة ، ومعاصر الزيوت ومصانع لتصنيع المواد الكيماوية كما قام محمد على باستبدال الطرق البدائية فى الصناعة وإدخال بدلا منه الآلات سواء الميكانيكية أو التى تدار بالبخار والمكابس ، أما القسم الثاني وهى الصناعات التحويلية وهى الصناعات المتعلقة بالغزل والنسيج بكافة أنواعه ، القسم الثالث وهو الصناعات الحربية وقد بدأ محمد على باشا فيها بعد قيام الحرب الوهابية سنة 1811 - 1819م حيث أسس أول ترسانة أو دار للصناعة بالقلعة - ورش باب العزب - ليكون على أحدث النظم الأوربية فى ذلك الوقت لتتوالى المصانع الحربية بعد ذلك بأنحاء مصر ، هذا ولقد كان ذلك بعضا مما شملته أوجه النهضة بمصر فى عهد محمد على باشا .

 

 

                                                            الختام
___

اللهم لك الحمد انى قد اتممت تاريخ مصر القديم

كل الشكر لكل من قام بالاطلاع على هذه الموسوعة كل الشكر لجميع من عاوننى بصدق

تحياتى لكم

وتمنياتى للجميع بالتوفيق

دومتم بكل الود